سيناريوهات الدخول
جرت العادة أن يحظى الدخول السياسي بأولوية لدى الرأي العام، خصوصا في سنة انتخابية كهذه. لكن جائحة كورونا قلبت الموازين تماما، وأضحى الجميع مسكونا بهواجس الدخول الاجتماعي، سواء المتعلقة بالدخول الدراسي أو الاستقرار المهني أو السلامة الصحية.
فتعليميا الوزارة، ومن خلالها الحكومة، اختارت المزاوجة بين التعليمين الحضوري والرقمي. لذلك من الطبيعي جدا أن تعلو الأصوات ويحتد النقاش حول هذا السيناريو الأول من نوعه في تاريخ التعليم المغربي، والذي يعني أن ما يسمى بـ”التعليم الإلزامي” سيصبح اختياريا. والاختيار هنا سيكون للآباء والأولياء. والأمر نفسه بالنسبة لمؤسسات ما بعد الباكلوريا، إذ سيكون على الطلبة الاختيار بين الحضور أو الاكتفاء بمتابعة المحاضرات عبر بوابات الجامعات.
هذا الاختيار، وبدون مزايدات من أي نوع، هو اختيار بطعم الإكراه والإلزام، ليس فقط بالنسبة للحكومة ولكن بالنسبة للأسر أيضا. ففي ظل الارتفاع القياسي لعدد الإصابات والوفيات جراء كورونا، فإن المغرب أمام ثلاثة سيناريوهات.
الأول أن يتم الاكتفاء بالتعليم الرقمي، ورغم أنه اختيار آمن لعشرة ملايين من الأطفال والشباب، رواد المدارس والجامعات، فإنه كابوس حقيقي لآلاف الأسر، خصوصا الأسر التي يشتغل فيها الأبوان معا، لأن هذا يعني ضرورة توفير جليسات أطفال، ليكون مكوث الأطفال في المنازل آمنا. ليس فقط من جهة الحوادث المنزلية، ولكن من جهة الاستعمال الآمن للأنترنت، وإلا من سيغامر بترك طفلة أو طفل لوحدهما رفقة حاسوب أو هاتف، بدليل أن العديد من الآباء الذين لهم القدرة على مراقبة استعمال أبنائهم للأنترنت لاحظوا محاولات استدراج خطيرة تعرض لها أطفالهم من طرف شبكات “دعارة الأطفال” التي تتخذ من تطبيقات الألعاب مرتعا خصبا لأنشطتها. ولنا أن نتصور ما يحدث الآن وما سيحدث في الأسر التي ليست لها إمكانيات، معرفية أو مهنية، لمراقبة الأبناء.
هذا السيناريو له تكلفة تجعل تنزيله مستحيلا في شهر أو شهرين، لكونه يحتاج إلى سنوات، وإلا ما هي نسبة الأساتذة الذين يتحكمون في “TICE”أي استعمال تكنولوجيا الاتصال في التدريس؟ أجزم بأنهم على رؤوس الأصابع في كل مؤسسة تعليمية. وسؤال التكوين والتكوين المستمر يطرح هنا بقوة. هذا السيناريو يفترض أيضا أن جميع الأطفال والشباب لهم إمكانيات للحصول على أجهزة إلكترونية، والواقع أن الأرقام الرسمية للهشاشة الاجتماعية كافية لوحدها لتجيبنا حول نجاعة هذا الاختيار، دون أن ننسى إشكالات بيداغوجية وتنظيمية كبيرة يفرضها هذا التعليم الرقمي. فالجميع يعرف أن التعليم الرقمي ليس هو إرسال درس بـ”PDF” عبر تطبيق الواستاب، أو فيديو لأستاذ يكتب في سبورة.
أما السيناريو الثاني فهو فرض التعليم الحضوري كأن الوباء غير موجود. والواقع أنه مجازفة كبرى لأنه يعني ببساطة أن المؤسسات التعليمية ستتحول إلى بؤر تربوية، وسيتحول التلاميذ إلى ناقلين نشيطين للعدوى من مدارسهم إلى منازلهم.
قد يقول قائل بأنه اختيار ممكن إذا ما تم تطبيق إجراءات الوقاية. والواقع أن تفعيل إجراءات الوقاية في المؤسسات التعليمية لا تقف عند استعمال المعقمات والكمامات، بل تفرض تخفيف الأقسام إلى النصف، وهذا يفرض توفير آلاف القاعات وآلاف المدرسين. بمعنى أنه سيناريو، وإن كان ممكنا، فهو ممكن على المدى المتوسط.
لذلك لم يبق إلا السيناريو الثالث، وهو المزاوجة بينهما، وهذا وإن كان يحمل الآباء مسؤولية سلامة أبنائهم، فهو يحتاج لإجراءات موازية خصوصا على المستويين التربوي والإداري. إجراءات تجيب عن أسئلة من قبيل هل سيشتغل الأساتذة حضوريا وعن بعد معا؟ هل سيتم احترام الساعات التنظيمية للعمل؟ كيف سيتم احتسابها؟ كيف ستتم متابعة غياب التلاميذ عن بعد؟ كيف سيتم احتساب المراقبة المستمرة؟ هل سنضمن تكافؤ الفرص بين تلاميذ مرتاحين في منازلهم يدرسون عن بعد وتلاميذ يقطعون كيلومترات كل يوم للدراسة؟ والأهم هو كيف نواكب الأطفال نفسيا للتكيف مع واقع تعرض أساتذتهم أو زملائهم لإصابات، وتحولهم هم أيضا إلى مخالطين مشتبه في إصابتهم؟
هواجس الدخول الاجتماعي لا تتوقف عند دراسة الأبناء، بل تمتد للأمن الوظيفي، إذ لا أحد يمكنه التكهن بمصير عمله، وخصوصا المستخدمين في القطاع الخاص وأصحاب المهن الحرة، إذ يمكن في أية لحظة أن يتسلل الفيروس إلى حي أو معمل أو شركة أو شارع ويتم الإغلاق الشامل، وهو ما يعني ضياع مصادر الرزق.
فأصحاب المكتبات الذين عادة ما يكونون في هذا التوقيت من السنة منشغلين بتوفير الكتب والتجهيزات المدرسية يخافون المغامرة برساميل لا يبدو أنهم سيسترجعونها إذا تم الاعتماد فقط على التعليم عن بعد. والأمر نفسه بالنسبة لتجار الملابس، ففضلا عن الاضطراب في حركية البضائع في المناطق الصناعية التي تنتج هذا النوع من السلع، هناك تخوف لدى أغلب الأسر من صرف ما تبقى من مدخراتها، إن بقيت لها مدخرات، في الملابس والكماليات، وهي مهددة في أية لحظة بفقدان مصادر رزقها.
هذه أسئلة ليست سهلة بالمرة بالنسبة لملايين المغاربة، ومن الطبيعي أن تكون تبعاتها النفسية والاجتماعية باهظة جدا، لكون العديد من المشكلات ستظهر للسطح لم تكن الأسر لتفكر فيها من قبل. وليس هناك أسوأ من حالة العجز التي نعيشها هذه الأيام، العجز عن التوقع وعن التخطيط لما سيحدث في الأسابيع القليلة القادمة.