سيرة صداقة
إبراهيم الخطيب
رغم أن أسرته كانوا جيرانا لنا، في أواخر خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضي، بحيث كان منزلهم ملاصقا لمنزلنا بباب العقلة في تطوان، إلا أني لم أتعرف على صديقى الراحل عبد السلام الرباحي إلا في الثلث الأخير من الستينات، عندما حللت بالرباط للإقامة فيها إثر تعييني أستاذا بثانوية النهضة في سلا. أتذكر أني سبق أن رأيته في الماضي مرات قليلة وهو يدلف معجلا إلى المنزل الملاصق لنا، وذلك حينما كان يزور أسرته، بين وقت وآخر، قادما من إسبانيا التي كان يتابع بها دراساته العليا.
تلقى دراساته الابتدائية بالمدرسة الخيرية بتطوان، وبعد الفراغ منها التحق بالمدرسة الإسبانية (أكاديمية لاخينيرال) في شارع الجنرال فرانكو (شارع محمد الخامس حاليا)، وعندما تمكّن من اللغة الإسبانية ذهب إلى مدريد للتخصص في مادة الفيزياء، وهو التخصص الذي ظل شغله الشاغل. عقب ذلك حل بالرباط حيث التحق كمهندس بوزارة الطاقة والمعادن التي كان أكثر موظفيها، في ذلك الوقت، فرنسيين متعاونين.
كان (ع.ر) من أبرز أصدقاء صهريَّ الراحلين (ح.ل) و (ع.ط)، اللذين كانا مقيمين في الرباط، لذا لم تفتأ علاقاتي به أن عرفت انطلاقتها إبان الأمسيات التي كانا ينظمانها في شقتيهما، والتي كانت مكرسة، في الغالب، للعبة الورق أو لمشاهدة المباريات الكروية الدولية مع هامش للنقاش في قضايا الساعة.
إقامات وشقق
لقد مكنتني الإقامة في منزل صهري (ح.ل) بشارع علال بن عبد الله، إثر حلولي بالرباط قادما من فاس حيث أنهيت دراساتي الجامعية- مكنتني من التعرف عن قُرب على (ع.ر) والاحتكاك به، فأثار انتباهي ذكاؤه الحاد، وذاكرته القوية، وسخريته اللامبالية والصادمة أحيانا، وحرصه على التقرب مني للاطلاع على مزاجي واهتمامي بالكتابة والسينما.
لكن الحدث التالي كان حاسما في التعرف بعمق كلانا على الآخر: ففي أواخر السبعينات، وعلى حين غرة، عُيّن صهري (ح.ل) بإحدى المؤسسات الاقتصادية بالدار البيضاء، فانتقل إليها برفقة زوجته حيث أقاما في شقة فسيحة بعمارة (مرحبا)، مشرفة من أعلى على شارع الجيش الملكي.
هكذا، وبتدبير من صهري، انتقلت للإقامة، مؤقتا، في شقة (ع.ر) بشارع جان دارك (دادس حاليا) في انتظار عثوري على سكن مع بعض أصدقائي الذين كانوا قد حلوا حديثا بالرباط قادمين من فاس. لكن الإقامة لم تكن مؤقتة في النهاية، بل تواصلت سنة كاملة كانت من أكثر سنوات عمري تأثيرا في نفسي وتكويني الاجتماعي، حيث تجاوزت فيها خجلي وارتباكي، وجالست لأول مرة فرنسيين، كانوا جيرانا لصديقي، في سهرات طويلة، مرحة، وعشاءات صاخبة.
كان (ع.ر) حينها أعزب، يكبرني بعشر سنوات، وكانت شقته تتألف من أربع غرف، خصني بإحداها، وكانت مزودة بصوان فسيح كنت أضع فيه متاعي وكتبي وأوراقي، وكان هو حريصا على منحي كامل الحرية فيها، بحيث لم يكن يدخلها أثناء وجودي بها إلا لماما وبعد استئذان. كنا نتناول فطورنا وقوفا في مطبخ الشقة، ولا نلتقي في صالونها إلا عند المساء، بعد الفراغ من العمل، حيث يكون هو قد عاد من الوزارة، وأكون أنا مرهقا بعد العودة من سلا على متن حافلتين: تنقلني إحداهما من (باب بوحاجة) إلى وسط الرباط، فيما تنقلني الثانية من هناك إلى أكدال.
شخصية تثير الاستغراب
لم يكن (ع.ر) يهتم بالأدب: وفي مناقشاتنا كان يصر على الاستهانة بالتخييل، والإعلاء من شأن البحث العلمي، والنظريات الفيزيائية، مقللا من دور الثقافة الدينية في فهم تاريخ الكون وتطوره. لكن ما كان يثير استغرابي، في هذا السياق، هو إعجابه بلغة القرآن، وحفظه لبعض قصائد أبي العتاهية التي تتناول موضوعي الزهد والموت. كان مولعا بإحراجي في جدل حول الدنيا والعالم الآخر، وحول آدم ونظرية داروين، معتمدا على أفكار تعتبر تخلق الكون نوعا من الصدفة. ما أتذكره أيضا باستغراب هو كونه حثني، ذات يوم، على قراءة الرواية الوحيدة التي كانت موجودة بين كتبه، وهي رواية نيكوس كازانتزاكي (زوربا) مشيدا بروحها الجادة والمرحة، وتفاؤلها، ووقائعها الحافلة بحب الحياة. كانت تلك هي المرة الأولى التي أدركت فيها أن اهتمامه بتلك الرواية لم يكن سوى تعبير عن حبه للجمال الإنساني، وإيثاره لواقعية الحياة، وسعيه دوما إلى اختصار المسافة التي تفصله عن معرفة حقائق الآخرين.
وفي مقابل استهانته بالتخييل، اهتم بقراءة سير الشخصيات النابهة التي تركت بصماتها في التاريخ الإنساني، سواء على صعيد العلوم أو صعيد السياسة. من ذلك ولعه وانكبابه بحرص بالغ على قراءة البيوغرافيات الكثيرة التي كتبها الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، وإلحاحه، قبيل نهاية حياته، على اقتناء المجموعة الكاملة لهذه البيوغرافيات التي صدرت في طبعة أنيقة عن إحدى دور النشر الفرنسية. في هذا الإطار لاحظت أن صديقي كان يميل، على نحو غامض، إلى بيوغرافية ماري أنطوانيت، بحيث أعاد قراءتها، كما صرح لي بذلك، أكثر من مرة. بل إنه لما ضعف بصره قليلا سعى إلى تكبير أحرف هذه البيوغرافية لدى ناسخ محترف حتى يتمكن من قراءتها دون مشاكل. وإلى جانب البيوغرافيات المذكورة، كانت صحيفة (الشرق الأوسط) مصدره الرئيسي للأخبار بسبب مادتها الدولية الوفيرة، ثم بسبب مقالات الرأي الصغيرة التي يكتبها كتاب معروفون مثل أنيس منصور وغيره، وهي المقالات التي كان يقتطعها من النسخة اليومية للاحتفاظ بها، وربما العودة إليها في وقت آخر.
أما بصدد ذاكرته القوية، فأذكر أنه طلب مني ذات يوم أن أسجل، بصورة عشوائية، في ورقتين 120 اسما من أسماء الأشياء (كراسة، قنينة، شجرة، إلخ) بشرط أن أضع تحت كل 5 أسماء خطا فاصلا. وعندما فعلت ذلك، أخذ الورقتين وتأملهما مليّا لمدة خمس دقائق على الأكثر، ثم أعادهما إلي، قبل أن يسرد من الذاكرة كافة الأسماء بنفس الترتيب الوارد في الورقتين. أتذكر أني دُهشت لذلك حينذاك، ويبدو أن تلك الدهشة لا زالت ملازمة لي إلى اليوم.
عندما حلت العطلة الصيفية، لممت متاعي، وسافرت إلى تطوان، وهناك حضرت حفل عرس صديقي (ع.ر)، الذي كان قد عرّفني من قبل على خطيبته عندما ذهبت وإياهما إلى الدار البيضاء لاقتناء بعض قطع الأثاث التي كانا سيضيفانها إلى ما يوجد في شقة شارع جان دارك. وحين انتهت العطلة الصيفية عدت إلى الرباط حيث اكتريت، بمعية صديقيّ محمد بوخزار وأمين الخمليشي، شقة في الطابق الأول من عمارة تقع عند ملتقى شارع علال بن عبد الله وزنقة الإسكندرية بحي حسان، قاب قوسين من جريدة (العلم).
رغم تغير وضعه الاجتماعي، لم تنقطع صلتي بصديقي (ع.ر)، حيث كان يدعوني، بين آونة وأخرى، لتناول طعام الغذاء معه للتعرف أكثر على زوجته ورفع الكلفة بيننا، كما كان يدعوني لحضور الأمسيات التي كانا ينظمانها في شقتهما عشية، والتي كان يشارك فيها أصدقاؤه من (تطوانيي الرباط) مع زوجاتهم أو بعض زملائه في العمل أو فرنسي أو اثنين من جيرانه. لكن عدد الحضور، في الغالب، لم يكن يتجاوز ثمانية إلى عشرة أشخاص. ما كان ممتعا في هذه الأمسيات هو أنها كانت مفتوحة دون عقد، كما كانت مشجعة على تبادل الآراء، وإن لم تكن تخلو أيضا من هذر بريء، بحسب تباين المستوى الثقافي للحضور، وكذا مستواهم الاجتماعي. وإثر تناول المشروبات والحلويات التي تقدم لهم، يتشكل من الجمع، بمعزل عن النساء، فريق ممن كانوا مولعين بلعبة الورق، وعندئذ يتوقف كل نقاش، ليحل محله الجدال الصاخب الذي يصاحب عادة تلك اللعبة، ويشكل متعتها، وهو الظرف الذي كنت أتحينه للانصراف.
ولوج باب السينما
في هذه الفترة، أي منتصف السبعينات، وبسبب اهتمامي القديم بالسينما، انخرطت في النادي السينمائي الرباطي الذي كان يقدم أفلامه في قاعة (سينما رويال) القريبة من سكناي. وحرصت على متابعة مشاهدة الأفلام المبرمجة التي كان يتلوها نقاش تقني وثقافي يديره الناقد السينمائي نور الدين الصايل أو بعض مساعديه مثل محمد الدهان. يتعلق الأمر بعرض أسبوعي يتم كل خميس لأفلام فرنسية أو روسية أو أوروبية – شرقية، ويحضره منخرطون كثيرون، مغاربة وفرنسيون، كما كان يحضره تلامذة بعض الثانويات. في هذا الصدد أتذكر أني حاولت تحبيب السينما إلى صديقي (ع.ر)، بحيث دفعته إلى الانخراط، مثلي، في النادي، لكن حماسه لهذا المسعى، حسب ما لاحظت، لم يفتأ أن عرف تراخيا متواصلا، إلى أن شرع في الانقطاع عن حضور الأفلام المقدمة، بل وصل به الأمر حد مغادرة قاعة السينما، وسط العتمة، قبل نهاية عرض الفيلم، تاركا إياي هناك في حرج وحيرة. لكني لم أعد للإلحاح عليه، وأوّلت تصرفه بكونه يندرج ضمن نزعة نفوره من كل ما هو تخييل أو شبيه به.
ظلت علاقتي بصديقي، بعد تقاعده ووفاة زوجته الأولى، أم أولاده، واقترانه بالثانية التي رافقته إلى حين رحيله، وطيدة لم تشبها شائبة من توتر أو تلاسن أو خصام أو قطيعة حتى بعد اضطراب إيقاع لقاءاتنا بسبب التغيرات التي عرفتها حياته، بما في ذلك انتقاله النهائي للإقامة في تطوان، واستئناسه هناك بأصدقاء جدد كانوا يلتقون مرة في الأسبوع في مقهى (ديوان). جرى كل ذلك قبل أن يداهمه، على نحو تدريجي وطيلة سنتين أو ثلاث، داء الزهايمر وقد فاق السادسة والثمانين من عمره، حيث انعزل في شقته بشارع الجيش الملكي بتطوان أو إقامته الثانوية في شاطئ هوليداي الملاصق للمضيق.
وقبل وفاته بشهر ونيف، نقل إلى الرباط على عجل حيث التحق بمصحة (ابن خلدون) التي قضى فيها بضعة أيام، قمت خلالها بزيارته. وجدته ممددا على الفراش، مغمض العينين، وبجانبه فتى أصبح دليله ومرافقا له منذ داهمه الداء. انحنى هذا الأخير عليه ونطق اسمي بصوت مرتفع، فانتبه صديقي من سباته وقال وهو ينظر إلى مرافقه وليس إلي: إنه شخص عزيز علي. وعند مغادرتي للمصحة خامرني شعور بالندم والحزن، وأنه ما كان علي زيارته وهو على هذه الحال، ليقيني بأنني سوف لن أشاهد فيه الشخص الرائع، الذكي، المرح، الذي احتفظت به ذاكرتي.