سيدتي الضحية
جهاد بريكي
عندما تسلمت تلك الوظيفة التي طالما حلمت بها وتمنتها وواجهت ضعفها وعجزها وكلمات كانت تجعل من طموحها مجرد كابوس ممل، عندما وضعت رجلها داخل تلك المؤسسة لم تكن تعلم أنها تضع رجلها داخل قبرها، لتترك طفلة وراءها وزوجا بالكاد يستطيع استيعاب ما حصل، وتقرر أن تضع نهاية لحياتها. وتنتحر.
هذا ما يحصل عندما يصل شخص معين إلى الهاوية ولا يجد من يتلقفه، هاوية البشاعة البشرية المحيطة بنا. لا يمكن أن ننفي، مهما حاولنا تلوين الواقع بلون وردي فاتح، أن النساء يتعرضن لأنواع مختلفة من الميز أو التجاوزات أو الابتزاز النفسي داخل مكان عملهن فقط لأنهن جنس آخر، مهما ترقت الواحدة منهن في سلم العلم والعمل، لا بد أن تجد مختلا يتربص بها في أروقة المؤسسة التي تعمل بها ليخبرها أنها مثيرة وأن وزنها زاد أو نقص، وأن زوجها محظوظ بها أو أنها تستحق من هو أفضل منه، أو قد يتجرأ في أحيان كثيرة ويمد يده واضعا إياها على كتفها أو ظهرها أو أماكن أخرى أكثر حساسية. حتى أن هناك من لا يتحرج في الافتخار بما يفعل وتوثيق جرمه بكبرياء شديد، ذلك الذي يعتقد أن كل من وطأت قدمها مصلحة يشتغل هو بها، صارت سبيا وغنيمة لا يشاركه فيها أحد. تتعدد أشكال التنمر الوظيفي والجرم واحد، قد تكون تحرشا جنسيا، أو معنويا، أو ابتزازا نفسيا للوصول لغاية ما. في حالة النساء، الأمر غالبا يرتبط بالجنس.
في تقرير لمنظمة حقوق الإنسان بالمغرب، ضم تسعة وتسعين امرأة، 40 في المائة منهن تعرضن للعنف داخل وسط العمل، و60 في المائة منهن تعرضن للتحرش الجنسي. ما يوافق أن أكثر من نصفهن تعرضن للتحرش الجنسي، يعني أن بين كل عشر سيدات، ست منهن تعرضن للتحرش الجنسي، رقم مرعب، والأشد رعبا أنه لم تقم أي واحدة بشكاية أو دعوى قضائية أو حتى التحدث في الأمر مع المسؤولين عن المؤسسة التي يعملن بها. هذه الحوادث ليست حكرا علينا، نحن مجتمعات الشرق المحافظ والمؤمن بالفطرة، ففرنسا المتقدمة والمتشدقة بحقوق النساء وكرامتهن، تعاني نساؤها من التحرش الجنسي داخل مقرات عملهن، فامرأة من خمس نساء تعرضت للتحرش خلال مسارها المهني، وما يقارب ثلث من تعرضن للتحرش لم يتكلمن في الأمر أبدا، وفقط خمسة في المائة منهن من تابعن المتحرش ورفعن دعاوى قضائية في المحاكم.
أعرف سيدات يذهبن كل يوم لعملهن وقلوبهن ترتجف خوفا من أن يكن ضحايا تجاوزات أخلاقية، وذلك راجع بالأساس لخوفهن من فقدان الوظيفة التي تطعمهن الخبز. فكيف يصبح مكان طلب الرزق المكفول في كل الشرائع والدساتير والأعراف معقلا للاعتداءات الصارخة ومتنفسا لأصحاب الخيالات المريضة والنفوس العقيمة.
ربما لا يستوعب البعض فظاعة الأمر وعظم الجرم، وقد يجده البعض شيئا متجاوزا لا يستحق كل هذا اللغط، وهذا الأخذ والرد، وقد يتهمنا آخر بمحاولة بث الفتنة، وزعزعة الأمن العظيم الذي ننام في كنفه. فليسمح لي عزيزي القارئ أن أشرح له ما يحصل داخل جسم وروح امرأة تتعرض للتحرش. ما يحدث أنها بمجرد ما أن يتحرش أحدهم بها، بكلمة أو إشارة أو غيرها، أو أن يلمس بيده جزءا من جسمها، حتى تطلق كل صافرات الإنذار عندها، فتشعر الضحية لوهلة بأن قعرا سحيقا يجرها لنهايته. إحساس بالوضاعة والدونية والاشمئزاز، إحساس بالضعف والظلم والحقارة. اختراق لهذا الجسم الذي تملكه وتدمير لكل خصوصية واستقلالية. تشعر كأنها سلعة يحق لكل متبضع فحصها ليتأكد من سلامتها. شعور بشع بأن لا حق لك في ما تملكين، وأن كل من سولت له نفسه أن يخترق سكونك ويزعج عالمك الصغير يمكنه ذلك وبسهولة ودون أدنى إحساس بالندم. متاحة لمن أراد، وفي متناول كل جائع شره.
لا هو بالأمر الهين ولا بالهامشي الواجب تجاوزه وعدم الالتفاف له، كما تتجاوز ثرثرة جارك وسلبية خالتك، هو اعتداء على كرامة إنسان، كائن معجزة وفيه تسكن نفحة إلهية علوية، هو تواطؤ رهيب ضد إنسان تعتقد أنه أضعف منك، وتتصور أن بإمكانك تجاوز حقه في الحياة الكريمة.
تضع إحدانا كل ما تملك لتحقيق حلمها الوظيفي والعلمي والعملي، ثم تظن أنها وطأت جنة حلمها وملاذ طموحها، تعد نفسها بأن تقدم أحسن ما عندها، وأن تبلي بلاء حسنا وأن تجعل أفكارها واقعا ونظرياتها تجارب ترفع بها مستوى مجالها وتضيف لتخصصها وتحسن من أداء مؤسستها، حتى تجد أن كل ذلك تحول لمعركة حقيرة مع مسؤول متحرش أو زميل متطاول أو مجتمع يقيم أداءها بطول تنورتها ولون أحمر شفتيها. معركتنا ليست في التصدي لهذه الجرائم، هذه معركة القوانين ومن يكفلها، معركتنا أن نبدع في ما نفعل، أن نساهم ولو بأقل القليل في ما نمارسه، لكن كيف سنستطيع ذلك وكل امرأة من اثنتين تتعرض لانتهاك كرامتها؟ وكيف يتوقعون من الضحية أن تبدع وهي ما زالت في نظر البعض غنيمة يحق لهم اغتيال إنسانيتها؟
العجيب والمؤلم أننا نخاف أن نقول للمتحرش أنت متحرش، أن نوجه أصبع المحاسبة وأن نخبر العالم بذلك، نعتقد أننا طرف مسؤول عن الجرم، نفضل أن نصمت ونكبت غضبنا واشمئزازنا، على أن تلوك الألسنة سمعتنا بسبب جرم لا يد لنا فيه. تتحول القضية من أن فلانا تحرش بفلانة إلى قضية أخرى تقزم الجريمة وتحولها إلى مشكلة لباس أو صوت مغر أو مشية متمايلة، تماما كأن تسأل قاتلا متسلسلا لم قتلت ضحاياك؟ فيجيبك أنهم هم من لم يحسنوا الدفاع عن أنفسهم. تشويه لقضية كبيرة وتحويرها إلى مجرد حيثيات لا تبرر أبدا وبأي شكل من الأشكال، جريمة تسن لأجلها قوانين جديدة كل يوم، وفي كل بقاع العالم للتصدي لها.
اعلمي، سيدتي الضحية، أنك ضحية. ولا يد لك في جرم يرتكبه غيرك، وليس من واجبك أن تبرري كيف ولم ومتى ولأي سبب، الجريمة جريمة، ولو تواطأ المجتمع كله لتبريرها، وبراءتك مكفولة لك شاء من شاء وأبى من أبى. لا يجدر بك تغيير شيء، المعتدي هو الذي يجدر به تغيير سلوكياته وتحسين أخلاقه والتزامه بالقواعد والمواثيق التي تحكم علاقته مع الكون وتحديدا معك. معركتك ليست أن تثبتي أنك ضحية، لأنك فعلا كذلك، بغض النظر عن اعتبارات تافهة يحددها من لم يستطع تجاوز عقد التفوق الذكوري. معركتك في أن تحصلي على وسط آمن يحترمك كفاعل مهم وعضو كامل الإنسانية محفوظ الكرامة.