سورة «فاطر» في شهر الصيام
صبحي غندور
في شهر رمضان المبارك، شهر القرآن الكريم، هذه خواطر عما هو في سورة «فاطر» من مفاهيم وقيم مهمة، نسترشد بها في أمورنا الشخصية والعملية. نقرأ في الآية العاشرة من هذه السورة:
«مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزةَ فَلِلهِ ٱلۡعِزُة جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطيبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصٰلِحُ يَرۡفَعُهُۚ ۥ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ السيئات لَهُمۡ عَذَابٌ۬ شَدِيدٌ۬ۖ وَمَكۡرُ أُوْلَـٰٓٮِٕكَ هُوَ يَبُورُ» (10).
فقد استوقفني في هذه الآية الكريمة هذا الربط الجميل المطلوب بين «القول والعمل»، بين «الفكر والتطبيق»، بين «الإيمان والعمل الصالح» من خلال تأكيد الخالق عز وجل من ناحية على أهمية «الكلم الطيب»، الذي يصعد اليه، لكن من ناحية أخرى، على أن هذا الصعود يحتاج إلى عمل صالح يرفق بهذا «الكلم الطيب» لكي يرفعه. فكم من هوة سحيقة نجدها بين فكر البعض وسلوكهم، وفي كثير من المسائل العامة أو الشخصية. حتما لا يقصد معظم الناس هذا الانشقاق بين «القول» و«العمل»، لكن ذلك مدعاة للتمييز المهم المطلوب بين حالات ثلاث: فحالة الكلمة الطيبة حتى لو لم تقترن بعمل صالح، هي خير وأفضل من حالة الكلمة الخبيثة. لكن الحالة المثلى طبعا، هي في الجمع بين طيبة الكلام وصلاح العمل.
أيضا، أجد في الآية 12 من السورة نفسها ما هو حكمة بالغة ودرس هام لمن لا يقبلون بالرأي الآخر، ولا يجدون الحقيقة والمنفعة إلا في ما هم عليه من معتقد، وينكرون ذلك على المخالفين لهم. تقول الآية الكريمة:
«وَمَا يَسۡتَوِى ٱلۡبَحۡرَانِ هَـٰذَا عَذۡبٌ۬ فُرَاتٌ۬ سَآٮِٕغٌ۬ شَرَابُهُ ۥ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٌ۬ وَمِن كل تَأۡڪُلُونَ لَحۡمً۬ا طَرِيا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةً۬ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ ولعلكم تَشۡكرُونَ» (12).
فسبحان الله الذي خلق هذا التنوع والاختلاف في كل خلقه، بما في ذلك الماء الذي جعل منه كل شيء حي، فإذا بالآية تؤكد على أنه بالرغم من عدم سواسية «البحرين»، أحدهما عذب والآخر ملح أجاج، فإن بينهما فوائد وقواسم مشتركة يستفيد منها الناس: أكل اللحم الطري، استخراج الحلي وتسيير السفن فيهما…
هكذا يجب أن تكون حكمة وأمثولة هذه الآية في كل أمور الناس وأفكارهم وأعمالهم وأشكالهم، فالاختلاف لا يعني عدم وجود قواسم ومنافع مشتركة يمكن البناء عليها بين «المختلفين».
ولعل ما ورد في الآيتين 27 و28، فيه تأكيد على هذه الخلاصة:
«أَلَمۡ تَرَ أَن ٱللهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسمَآءِ مَآءً۬ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَٲتٍ۬ مخۡتَلِفًا أَلۡوَٲنُہَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِيضٌ۬ وَحُمۡرٌ۬ مخۡتَلِفٌ أَلۡوَٲنُہَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ۬ (27) وَمِنَ ٱلناسِ وَٱلدوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٲنُهُ كَذَٲلِكَۗ إِنمَا يَخۡشَى ٱللهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إن ٱللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)».
في سورة «فاطر»، نجد أيضا ما ورد في الآية 18 من دعوة لعدم التعميم في الأحكام:
«ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ۬ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ »، من الآية 18.
وهو أمر كانت عليه القبائل العربية قبل الإسلام، من حيث أسلوب العقاب الجماعي لعائلة أو عشيرة أو قبيلة إذا أخطأ أحد أفرادها، وهي مفاهيم ما زالت قائمة للأسف في العديد من المجتمعات، حيث يقترن مفهوم «الثأر» بعقاب جماعة المخطئ لا المخطئ نفسه فقط.
وفي ختام سورة «فاطر» نجد هذه الآية التي تُعلم الناس أهمية التمهل في محاسبة الآخرين وعدم التسرع بإطلاق الأحكام عليهم، والتعامل مع الناس بمجمل ما هم عليه من سلبيات وإيجابيات، وليس التوقف عند حالة سلبية واحدة فقط. تقول الآية الكريمة:
«وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللهُ ٱلناسَ بِمَا ڪَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهۡرِهَا مِن دَآبةٍ۬ وَلَـٰڪِن يُؤَخرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٍ۬ مسَمىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَإِن ٱللهَ كَانَ بِعِبَادِهِۦ بَصِيرَۢا» (45).
وليست سورة «فاطر» فقط هي التي تدعو الناس والمؤمنين بالله عز وجل إلى حسن السلوك مع الآخر وإلى تفهم حكمة الخالق تعالى بخلق الناس مختلفين، فالقرآن الكريم كله دعوة واضحة إلى الإيمان والعمل الصالح معا، وإلى اتباع الحكمة والأسلوب الحسن ورفض الإكراه في الدين:
-«ادعُ إلى سبيلِ ربك بالحِكْمةِ والمَوْعظةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُم بالتي هيَ أحسنُ»/ سورة النحل – الآية 125.
-«أفَأنْتِ تُكْرِهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين»/ سورة يونس – الآية 99.
-«وجعلناكم شعوبا وقبائل لِتَعارفوا»/ سورة الحجرات – الآية 13.
-«مَنْ قتلَ نفساً بغيرِ نفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فكأنما قتَلَ الناسَ جميعاً ومَنْ أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعا» / سورة المائدة- الآية 32.
-«وَعِبادُ الرحمنِ الذين يَمشونَ على الأرضِ هَوْناً وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلونَ قالوا سَلاما»/ سورة الفرقان- الآية 63.
-«وكذلك جعلناكم أمة وسَطاً لتكونوا شُهداءَ على الناس»/ سورة البقرة – الآية 143.
-«وَمَا أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَة للعالمين»/ سورة الأنبياء- الآية 107.
هذه نماذج قليلة من كثير ورد في القرآن الكريم، الذي يكرر المسلمون قراءته (بل حفظه أحيانا) في شهر رمضان المبارك من كل عام. لكن الهوة سحيقة أيضا بين من يقرؤون وبين من يفقهون ما يقرؤون، ثم بين من يسلكون في أعمالهم ما يفقهونه في فكرهم!
وربما، لذلك ميز القرآن الكريم أيضا بين «المسلمين» و«المؤمنين»، فالإشهار بالإسلام وممارسة العبادات أمر يحكم الناس على رؤيته ووجوده، لكن فعل «الإيمان» متروك إدراكه وتقدير مدى صحته للخالق سبحانه وتعالى.
وكم هي بليغة أيضا في معانيها الآية الكريمة (33) من سورة (فصلت): «ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين».
ففي هذه الآية يرتبط «القول الحسن»، الذي يسبق القول «إنني من المسلمين»، بالجمع بين الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى وبين العمل الصالح.