سمات عربية في رئاسيات أمريكا
سامح راشد
نجح المرشح الرئاسي الأمريكي، دونالد ترامب، في استنساخ النموذج العربي/ العالمثالثي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فهو لم يكتف بإدارة سياسات بلاده داخليا وخارجيا بعقلية شعبوية يمينية تجارية، وإنما أيضا راح يتمادى في تطبيق تلك النزعات عديمة المنطق والأخلاق وإعمالها، في استحقاق رفيع المستوى، يمثل رمزا للديمقراطية على مستوى العالم، ويجسد سلطة الشعب وحريته في اختيار من يحكمه.
لا يستوعب عقل ترامب، الوافد من قطاع المقاولات والتجارة، صاحب العقلية الاستبدادية المجبولة على أن كل شيء له ثمن بما في ذلك القيم والمبادئ، نفور الأمريكيين من نموذجه التجاري وروحه الشعبوية إلى حد الهمجية. وهو هنا يخالف غالبية الأمريكيين الذين يميلون إلى التغيير، ويكرهون منطق لي الذراع. أدار ترامب المعركة الانتخابية، كما لو كان حاكما في أحد بلدان العالم الثالث، فإما يكون هو الفائز أو تكون الانتخابات مزورة. وهو منطق ينطوي على تناقض صارخ، بين الرغبة في الحفاظ على «أمريكا عظيمة مجددا» والتشكيك في العملية الانتخابية، خصوصا في ولايات معروفة بتأييدها الجمهوريين تقليديا، فأي عظمة تلك التي صنعها ترامب لأمريكا، إذا تمكن خصومه من التزوير وإفساد الانتخابات في معقل أنصاره؟
لم يكتف ترامب باجتزاء آليات التمثيليات السياسية المفتعلة في الدول المتخلفة، فاقتبس منها أيضا منهج التحريض وخطاب التهديد والإيحاء بعدم جدوى الطرق السلمية والقانونية التقليدية. والتقط أنصاره الإشارة سريعا، فخرجت تظاهرات تهدد وتتوعد، وترفض ما وصفه ترامب بتعبير «سرقة الانتخابات». تماما كما تتداول الاتهامات في بلداننا برشوة الناخبين واستخدام المال السياسي، وفي رواية أخرى، لكن مشابهة، «أصوات الزيت والسكر». لتنعكس شعبوية الساسة ولعبهم بالنار على السلوك الجمعي الذي يصعب، بالطبع، التحكم فيه وضبط اندفاعاته.
استدعى ترامب أيضا الوضاعة الأخلاقية المعهودة لدينا بين إعلاميين وسياسيين كثيرين، بشخصنة التنافس والتنابذ بملفات محض شخصية، والمعايرة بقضايا أو أحوال لا صلة لها بالعمل العام، ولا تؤثر على نزاهة المستهدف بها أو كفاءته. بل إن ترامب، طوال الحملة الانتخابية، لم يتطرق إلى جديد لديه، أو إضافة يمكنه تقديمها للأمريكيين، فاقتصر خطابه دائما على تشويه صورة بايدن، والنيل من قدراته بما فيها الذهنية، فكان يصفه ببايدن «النائم».
وتبدى هذا المنهج الشخصاني اللاموضوعي، في المناظرتين اللتين جرتا بين ترامب وبايدن. فبينما كان أمام الأخير أوراق هجومية، أبرزها إدارة أزمة كورونا، لم يجد ترامب سوى انتقادات شخصية لبايدن، واتهامات بالفساد لابنه، مع كثير من المقاطعة والتشويش والسخرية الخالية من أي مضمون. والسبب، ببساطة، أن حملة ترامب الانتخابية، هذه المرة، لم تحمل إلى الأمريكيين أجندة حقيقية أو خططا جديدة لتحسين الأوضاع، بل ولا حتى تصورا واضحا لكيفية مواجهة الموجة الثانية من كورونا. بعد أن أثبتت موجتها الأولى عجز ترامب عن ابتكار حلول وضيق أفقه عن مواجهة أزمة طارئة وحادة على المستوى الوطني.
على الرغم من كل تلك السمات العربية العالمثالثية في طريقة حكم ترامب، خلال ولايته الأولى، ثم في إدارة المعركة الانتخابية، إلا أن ثمة فروقا مهمة، بل جذرية، ومسافات كبيرة تفصل ذلك النموذج المستنسخ عن الأصل المتجذر والراسخ عندنا، منذ قرون. أهمها أن شعبوية ترامب وهمجيته وافتقاده كل المعايير الأخلاقية بل والمنطقية، في النظر إلى الأمور والتعاطي معها، محكومة بإطار يقيدها ويحد من تجلياتها ولو بقدر، فالنظام العام السائد في الولايات المتحدة يعمل تلقائيا ليكبح جماح هذه النزعات المتطرفة. وهو ما تفتقده بلداننا، وغيرها من بلدان العالم المتخلف. وأظن أن الله يقدر للأمريكيين إيمانهم بحقوقهم، وما بذلوه من جهد، ليصنعوا ويتمسكوا بذلك النموذج، فعافاهم مما ابتلانا به.