شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف الأسبوع

سلطان باليما أسرار من حياة أشهر نصاب في تاريخ المغرب

 

مقالات ذات صلة

حين نتوقف عند التعريف الاصطلاحي والقانوني، سنكتشف أنهما معا يصبان في معنى واحد مع اختلاف في الجانب الزجري. لذا فالاحتيال هو أي عمل يهدف إلى تضليل إنسان آخر عمدا للحصول على منفعة. يشمل الاحتيال على سبيل المثال لا الحصر إخفاء الحقائق أو تزويرها أو سرقتها أو الإبلاغ الكاذب عنها أو حجبها، بغاية تحقيق منفعة معينة. وهو من وجهة نظر القانون جريمة جنائية أساسها «الخداع المتعمد لتأمين أو الحصول على ربح غير عادل أو غير قانوني أو الحرمان من الحق القانوني في ملكية الممتلكات».

حسن البصري

لكن بالرغم من هذا التعريف الذي يجرم السلوك الاحتيالي، هناك قاعدة قانونية تقول: «القانون لا يحمي المغفلين»، مادام النصب والاحتيال يفرضان وجود فاعل ومفعول به، محتال ومحتال عليه، مجرم وضحية، مع إمكانية ارتفاع عدد الفاعلين وعدد الضحايا أيضا.

للمحتال عادة عشرات الأقنعة، لكن سلطان باليما له قناع واحد وعشرات السيناريوهات، ليس هو الوحيد وإن كان أقدمهم، ولكن حكاياته ومقالبه تحولت مع مرور الأعوام إلى طرائف.

اليوم، هناك نصابون من درجة أعلى، يضعون للنصب توابله: مكاتب، دعاية، ومجسمات.. لاستدراج ضحايا دفعوا «تحويشة» العمر لمقاولين ابتلعتهم الأرض.

كما شهد المغرب في الصيف الماضي تفجير أكبر قضية نصب واحتيال راح ضحيتها الآلاف من المنخرطين في شبكة للتسويق الهرمي. وهي القضية التي استأثرت باهتمام الرأي العام المحلي والدولي.

أمام حجم هذه القضايا، قد يبدو مولاي عبد السلام التهامي الوزاني، أقل ضررا من سابقيه، وأكثر ميلا نحو المقالب التي تجعل الضحايا مغفلين يضربون كفا بكف حين تنطلي عليهم الحيلة.

 

مقهى باليما.. غرفة عمليات السلطان المزيف

يعد فندق باليما من بين المعالم التاريخية للعاصمة الرباط، لا يختلف كثيرا من حيث القيمة التاريخية عن المامونية بمراكش ولنكولن بالدار البيضاء وفندق كونتنوتال في مدينة طنجة، مع ميزة تحسب لباليما كونه يوجد في منطقة استراتيجية في القلب النابض للرباط، قبالة مجلس النواب.

تم وضع لبنته الأولى في عهد الحماية الفرنسية وتحديدا سنة 1928، تم تدشينه من طرف لويس ماتياس الفرنسي الجنسية، وفي ظرف وجيز تحول إلى قبلة مفضلة للسياسيين والمفكرين الأوربيين والأمريكيين. جاءت تسميته «باليما» لتتضمن الحرفين الأولين من الأسماء العائلية لمؤسسي الشركة وهم: لوسيان باردي وأندري ليوغيل ثم لويس ماتياس. أي «با» من باردي و«لي» من لويغيل و«ما» من ماتياس، فجاءت «باليما» عبارة عن كلمة تحمل في طياتها شراكة ثلاثية.

في سنة 1932، سيفتح الفندق في وجه العموم، وسيتميز بمقهى مفتوحة على الشارع الرئيسي للعاصمة، أصبحت مقصدا للأوربيين والأجانب بصفة خاصة. وفي سنة 1950 أصبحت باليما عنوانا للقاءات بالنظر موقعها وسهولة التعرف عليه، خاصة من طرف النخب السياسية والفكرية وهي الفترة التي اعتبرها محمد السمار الباحث في تاريخ المغرب، «الفترة الذهبية لباليما».  وعلى الرغم من نزوح كثير من الأوربيين ومغادرتهم العاصمة الرباط مع فجر الاستقلال.

يتوفر الفندق على 65 غرفة مجهزة كما يضم ست شقق تستخدم كـ«سويتات» ضمن فندق من صنف ثلاث نجوم. ظل يديره إيميل جان لوغودييه وهو الذي توفي في ليون سنة 2022. إلا أن هذا الفندق ومقهاه الشهيرة لم يدخلا نفق الأزمة التي ضربت السياحة في تلك الفترة. بل إن أصحابه انخرطوا في مشاريع تحديث العاصمة الرباط من خلال إقامات في شارع محمد الخامس الذي كان يحمل اسم شارع «المخزن». بل إن شركة «باليما» ستدخل البورصة عبر عائلة المؤسس ماتياس.

ورغم إغلاق الفندق سنة 2015، وتوقف أشغال إعادة صيانة الفندق، إلا أن العديد من الشخصيات تصر على التوقف قبالته لاستحضار تاريخ مضى، بل منهم من يأخذ صورا تذكارية لمبنى ينطق بكثير من الذكريات، خاصة وأن عمره يقارب القرن ويصنف كجزء من ذاكرة المغرب.

 

ليس سلطان باليما وحده.. باليما ملتقى النخب

بفضل موقعها الجغرافي، كانت مقهى باليما وفندقها نقطة جذب لكثير من الشخصيات من مختلف التوجهات والجنسيات، بل إن الفنانة الفرنسية أني جيراردو، نجمة السينما الفرنسية في الستينات كانت زبونة شبه دائمة تجد في هذا الفضاء متعة لا تضاهيها متعة كبريات المقاهي الفرنسية، خاصة وأنها غالبا ما تكون برفقة زوجها الممثل الإيطالي ريناتو سالفاتوري.

ومن الأسماء الوازنة في عوالم الصحافة والأدب، كان بيير ليوطي، وهو ابن عم المقيم العام الفرنسي لويس هوبير ليوطي، وأحد مستشاريه، ففي هذه المقهى كان الكاتب الفرنسي ينسج بهدوء رواياته ويمزج بين التاريخ والسرد الروائي، بل إنه أقحم المقهى في كثير من كتاباته. كان ابن عم المقيم العام يحظى بمعاملة خاصة، لاسيما من طرف مدير الفندق ما يؤكد صدق الراوية التي ذهبت إلى أن المقيم العام الفرنسي الماريشال ليوطي، هو وهب قطعة أرضية التي تم بناء المشروع فوقها. في شارع كان يضم أهم المصالح الحكومية كالمحكمة ومركز البريد والتلغراف ومحطة القطار والبنك المركزي وفنادق، من بينها فندق «باليما» في وسط الشارع.

لكن الشخصية المؤثرة التي أقامت في باليما وخلفت وراء إقامتها استنفارا أمنيا كبيرا، هي شخصية الثائر تشي غيفارا حرب العصابات في غشت حين حل بهذا الفضاء سنة 1959 مرفوقا بأصدقاء كوبيين، نزلوا بمحطة القطار الرباط المدينةِ بلحاهم الكثة وملابسهم الأنيقة ينفثون دخان سيجارهم الكوبي الفاخر، ينتشون بأجواء الرباط الدافئة في انتظار من يرحب بهم وينقلهم نحو إقامتهم، لكنهم فوجئوا بعناصر من الشرطة المغربية تعتقلهم وتقتادهم نحو فندق «باليما» الذي تحول إلى إقامة جبرية للثوار لمدة يومين، قبل أن يتدخل الوزير الأول المغربي آنذاك، عبد الله إبراهيم، غاضبا من اعتقال ضيف المغرب فاتصل بمدير الأمن محمد لغزاوي الذي استشار ولي العهد ليتلقى إشارة إطلاق سراح تشي غيفارا ورفاقه بعد يومين من الاعتقال في فندق باليما لينتقلوا بعد ذلك إلى إحدى إقامات الدولة بالرباط، قبل أن يستفيد الضيوف من رحلة إلى مدينة مراكش.

ومن غرائب الصدف أن يكتب الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم قصيدته الشهيرة «غيفارا مات» في مقهى باليما الفضاء الذي مر منه الثائر اللاتيني، وهي القطعة التي غناها الشيخ إمام وكانت أشبه بمرثية خاصة لرجل عاش حياته في مكافحة الاستعمار والفكر الإمبريالي الرأسمالي. يقول مطلع القصيدة:

آخر خبر في الراديوهات

و في الكنايس

والجوامع…

غيفارا مات.

ومن الأسماء التي استقرت في باليما بيير مانديس فرانس رئيس الوزراء الفرنسي السابق والقيادى في الحزب الاستراكي الفرنسي، والمغني الفرنسي شارل تريني الذي عرف بتلحين وأداء أغاني غرامية، وزيميله جان ماري رياشي، وأسماء فرنسية عديدة اختلت مع ذاتها في فضاء الإبداع.

ولا يمكن نسيان الحضور الفني المغربي من خلال قامات فنية كبرى، كالزجال علي الحداني والفنان الطيب الصديقي وعبد الحق الزروالي، إضافة إلى الكاتب محمد خير الدين الذي استقر في آخر أيامه في هذا الفندق حيث كتب رائعته «ضد لا يطاق» والتي قال فيها: «ماذا تفيد المضادات الحيوية والسوائل أمام فك يتسرطن بسرعة الضوء، لحسن الحظ هناك أجنحة الصداقة التي تغمرني بنورها الرحيم»، فضلا عن كتاب وصحافيين مغاربة وعرب كطلحة جبريل ومحمد شكري وإدريس الخوري وإدمون المليح وسياسيين أغلبهم من البرلمانيين.

 

من يكون سلطان باليما وحاكمها؟

اسمه الكامل مولاي لحسن التهامي الوزاني، نسبة لمنطقة وزان التي ينحدر منها، من مواليد 1916، وفي رواية أخرى 1904، عرف بقامته الفارهة وبنيته الجسدية القوية، إلى درجة أنه كان مضطرا لاقتناء نعاله من صانع يضعها على مقاسه، حين يتعذر ارتداء النعال الكبرى المعروضة في الأسواق. لم يكن يدخن السجائر بل كان يكتفي بشم «التنفيحة» الوزانية التي يتوفر دوما على احتياطي هام منها.

أقام لفترة في فندق باليما قبل أن يصبح زبونا استثنائيا في المقهى، لم يكن اختباره اعتباطيا لهذا الفضاء بل إن الاختيار يندرج في خانة فهم خريطة المكان حتى يقوم بعملياته بأقل مجهود يذكر. البعد الاستراتيجي لباليما جعلته محاطا بالمصالح الحكومية كالمحكمة والبريد والبنك المركزي، قبل أن يتم استبدال بناية المحكمة بالبرلمان.

كان مولاي لحسن متحدثا بالفرنسية لكنه كان أميا، لا يتقن الكتابة ولا القراءة، إلا أنه كان حريصا على مظهره الذي يعد جزءا أساسيا في عمله اليومي، حيث يرتدي الجلباب بالسوسدي أو الجلباب البزيوي مع الحرص على التماهي في مشيته وإعطاء الأوامر لكل من صادفه في الطريق، خاصة الباعة الذين يعرضون بضائعهم في الشارع. وبين الفينة والأخرى يرتدي بذلة عصرية حسب ظروف وملابسات المهمة التي سيقدم عليها.

قيل إن الرجل كان مقيما في الفندق بالمجان، بعد مكالمة هاتفية توصل بها مدير باليما من القصر، تبين في ما بعد أنها كانت مقلبا انطلى على الإدارة التي منحت لمولاي لحسن صفة السلطان، بعد أن ادعى القرابة العائلية من الأسرة الملكية. وبهذه الصفة كان يخطط لعمليات استهدفت علية القوم بمقابل مالي طبعا، خاصة وأنه قبل أي تدخل يحرص على التنقل في سيارة يجلس في مقعدها الخلفي بعد أن يفتح السائق بابها بانحناءة تزيد المشهد قوة.

يقول بائع للجرائد عايش مرحلة سلطان باليما، إن السلطان المزيف كان يملك سكنا في حي سيدي موسى بمدينة سلا، وبعد الانفصال عن زوجاته كتب المسكن في اسم أم البنات، فأصبح مطرودا يقضي لياليه عن بعض الأصدقاء.

وصفه رفاقه وحتى بعض ضحاياه برجل المتعة والمقالب، لأنه كان يحتال على البرلمانيين أيضا ويعد رجال القضاء بترقيات، بل ويبشر سياسيين بالنجاح في الاستحقاقات الانتخابية، بل ويرافق الكثير من ضحاياه إلى مكاتب العمال والوزراء حتى يؤكد صدق طويته ونجاعة تدخله.

يقول عبد الرحيم الميموني إطار سابق في الداخلية، وهو يتحدث عن هذه الشخصية الاحتيالية التي صنعت حولها هالة سلطانية: «الناس يقبلون يديه بل يتسابقون نحوه، لمخازنية في السويقة ينظمون عبوره، وكان يقدم تعليمات للباعة وكأنه يضع النظام العام من أولوياته حتى الدليمي والبصري انطلت عليهما الحيلة». بينما يقول إيد بركة، وهو رئيس الطباخين، إن مولاي لحسن السلطان كان بمثابة راديو باليما ينتج الخبر ويحلله ويسبق الصحافيين إليه، خاصة وأنه يواظب على الاستماع لهيئة الإذاعة البريطانية ويتابع أدق أخبارها بل ويسخر من اجتماعات الزعماء العرب.

 

حكم قضائي يمنع سلطان باليما من ارتداء الزي المخزني

قال عنه الكاتب الصحافي الراحل محمد الأشهب، إنه «كان سيِد شارع محمد الخامس في الرباط بامتياز. لا تكتمل تضاريس وجاذبية المكان من دون حضوره اللافت. كان الشارع حدا فاصلا بين المدينة العتيقة وامتداده الأوربي، يوم لم يكن أحد يغادر الأسوار إلا متسللا أو بإذن خاص. غير أن الرجل القادم من قرية جبلية وجد لنفسه مكانا تحت ظلاله».

نفس إكسسوارات الشغل التي أجمع عليها كل من تعرف عليه عن قرب:  جلباب أبيض وطربوش مخزني أحمر وعصا يزهو بها في مشيته ولا يلوح بها. يجوب الشارع ويسمح بالتقاط الصور إلى جانبه من زوار المدينة.

سلطان باليما. رجل يعرفه الجميع ولا أحد يحفظ اسمه الحقيقي المسجل في كناش الحالة المدنية. غير أن سجلات المحاكم تحتفظ بواقعة فريدة في نازلة احتيال أدين فيها الرجل بحكم قضائي يحظر عليه ارتداء الجلباب التقليدي مدى الحياة.

يروي الأشهب تفاصيل الواقعة: «امتطى الرجل سيارة مرسيدس سوداء اللون، كانت مخصصة للعبور بين عدوتي الرباط وسلا. لا أحد علم كيف أقنع سائقها بنزع علامة سيارة الأجرة. المهم أنه كان يعرف طريقه إلى الهدف.. ضيعة فلاحية في منطقة الغرب المشهورة بزراعة البرتقال. كان موسم القطاف بلغ حلقومه. دلف المكان يبحث عن صاحب المزرعة، وحين اقترب منه هذا الأخير وضع سلطان باليما، بلباسه التقليدي، يده في جيبه وأخرج ورقة صغيرة زعم أنها صادرة عن إدارة رسمية، قال إنها تحوي مؤاخذات حول نزاع قديم يخص المزرعة وورثتها من أبناء عمومته. كان صاحب المزرعة يصغي بإمعان قبل أن يطلب إليه التدخل.

اشترط سلطان باليما مقابلا ماليا، وانتهى الكلام إلى تخصيص غلة ذلك الموسم لفائدة الوسيط الذي فهم أنه شخصية نافذة. في اليوم الموالي، كانت الشاحنات تغرف الغلال التي باعها سلطان باليما في أحد الأسواق، ولم يفطن صاحب المزرعة إلى أنه كان ضحية خديعة، إلا حين استلم استدعاء من المحكمة، ولم يشفع له أنه دفع رشوة لشخصية كبيرة ظل يبحث عنها دون جدوى.

 

أشهر عملية احتيال.. بيع مدفع لوداية

كان مولاي لحسن التهامي يقدم نفسه للمترددين على المقهى كمنتسب للعائلة الملكية دون أن يحدد طبيعة الانتساب، وكان يقتات من الوساطة حين كانت بناية المحكمة مقابل المقهى، وبكي يضفي على تدخلاته مصداقية أكثر من طرف المتقاضين، كان يحرص على تناول إفطار مع رئيس المحكمة أو أحد وكلائها وقضاتها، بل كان يبيح لنفسه التدخل لدى رئيس قسم الموظفين بالإدارة العامة للأمن الوطني في عهد أحمد الدليمي لينقل رجل أمن إلى وجهة أخرى أو يشغله في سلك الشرطة بكلمات منه.

ومن شدة دهائه كان سلطان باليما يحرص على أن يرافق لحسن الدليمي والد المدير العام للأمن الوطني، إلى الإدارة العامة فتكون فرصة لقضاء بعض الأغراض وإنجاز تدخلات مدفوعة الأجر.

لكن العملية المثيرة للاستغراب والتي كان يفتخر بها في جلساته مع أصدقائه، حين يود التعبير عن غباء النصارى، هي قيامه ببيع مدفع لوداية لسائح أمريكي، حيث التقيا ذات صباح قرب قصبة لوداية وتجاذبا أطراف الحديث، قبل أن يعرض عليه السلطان شراء مدفع من النحاس الخالص. لم يتردد السائح في شراء هذه التحفة، وسلم البائع ثمنها ثم انصرف. لكن السلطات الأمنية تلقت إشعارا بوجود سائح أمريكي يحاول اقتلاع مدفع من مكانه مدعيا شراءه من سلطان. قبل أن يعرف المشتري أنه كان ضحية احتيال.

وفي رواية أخرى فإن وقوف السائح أمام المدفع العتيق الجاثم أمام لوداية، دفع سلطان باليما للتقدم نحوه ليسأله عما إذا كان يريد اقتناءه، بعد أن ادعى أنه المسؤول عن المتاحف، ما سهل دخولهما في مساومات البيع والشراء، وحين تسلم السلطان المبلغ المتفق عليه بالدولار اختفى عن الأنظار بعد أن حدد للسائح يوم تسلم المدفع، أخلف الرجل الموعد فاضطر الأمريكي إلى الاستعانة بعامل في محاولة لاقتلاع المدفع وأمام تدخل رجال الأمن والمارة اقتنع السائح أنه كان ضحية عملية احتيال.

 

كيف سقط سلطان باليما في كمين أمني؟

يجد رواد مقهى باليما السابقون متعة في استحضار مغامرات سلطان هذا المقهى، كما كانت عملياته اختبارا حقيقية لزمن الغفلة، حين كان الناس صيدا سهلا بين يدي المحتالين، يكفي أن يجيد النصاب ترتيب كلماته وزيه ومكان جلوسه وسيارته ليصطاد الناس مثنى وثلاث ورباع.

كان سلطان باليما يقتاد بعض الزبائن المرضى إلى مصعد فندق باليما، فيقنعهم بأنه جهاز راديو، بل يطلب من البعض نزع ملابسه والإبقاء على ملابس داخلية، وينال مقابل خدمة الفحص بالمصعد مقابلا ماليا.

في سنة 1977 سيتم اعتقاله من طرف رجال الشرطة، ترصدوا له بمقهى باليما في ساعة مبكرة من الصباح، وحين لاحظوا غيابه أرشدهم بائع الصحف إلى مقهى «تيرمنيس» التي لا تبعد كثيرا عن محطة القطار وفيها اعتاد تناول وجبة فطور يؤدي ثمنها الراغبون في التقرب منه، هناك سيتم القبض عليه واقتياده إلى الأمن الإقليمي بالقنيطرة ليواجه تهمة النصب والاحتيال والوساطة في قضايا جنائية مقابل عمولات. أدين الرجل بسنة سجنا نافذا وأحيل على السجن المدني بالقنيطرة حيث كان السجناء يجدون متعة في الاستماع لعمليات النصب التي نفذها، حتى اعتبر مدرسا متخصصا في مادة الاحتيال.

كما أدين بتحقير مقرر قضائي، وإهانة أحد القضاة وادعاء الانتساب للأسرة الملكية، وأدين بعقوبة حبسية موقوفة التنفيذ، بل إنه نجا من كثير من التهم بعد أن وعد بإرجاع المبالغ المالية المحصل عليها من الاحتيال، والأخطر أن يقتحم مكاتب العمال ورؤساء الإدارات العمومية دون استئذان وهو يتأبط ملفات تنتظر التسوية، بل كان يعاتب رجال الدولة حين يلتقي بهم في مقهى باليما أمام روادها بجرأة مكتسبة.

في أيامه الأخيرة تسلل مرض السكري إلى جسده ولم تعد له القدرة على التحرك، خاصة بعد أن قامت زوجته بطرده من مسكنه، وقيل إنه عانى من التبول اللاإرادي ما جعل عمال مقهى باليما يطردونه منها كلما حل بها، إلى أن اختفى عن الأنظار فعلم الناس أنه مات شريدا عن سن يناهز التسعين عاما.

 

أمين أزروال.. سيرة سلطان باليما التي لم تكتمل

جالس الكاتب أمين أزروال سلطان باليما، أنصت لمغامراته واستمع باهتمام لأصناف النصب التي كان يمارسها بتخطيط محكم، انطلاقا من المقهى التي كانت مركزا لقيادة عملياته في اﻻحتيال التي مارسها منذ بداية الاستقلال، واستمرت إلى نهاية التسعينات من القرن الماضي.

يستعرض أزروال، صاحب «سنوات التحرير الصحافي» و«الحياة التي عاشها» ويعبر عبر تضاريس مساره المهني بل ويتوقف عند مقهى باليما ليبسط بعض نماذج النصب التي مارسها سلطانها والتي رواها عنه شخصيا قيد حياته.

«كانت نيتي تسجيل حوارات معه حول ضروب النصب التي مارسها وفاتحته في الموضوع وأبدى موافقته، إﻻ أن مرضه في آخر حياته حال دون تحقيق مشروع كتاب حول هذه الشخصية غريبة الأطوار التي تركت بصمتها على مرحلة من تاريخ المغرب، وخاصة منذ الاستقلال وإلى أواخر سنوات السبعينات قبل أن يتم منعه من ارتداء لباسه المخزني».

يضيف الأمين: «كان الوزاني الذي أصبح في ما بعد يحمل لقب سلطان «باليما»، من بين الذين شدوا الرحال إلى العاصمة الفرنسية، مرتديا زيه المعتاد، مما أثار فضول الصحافة الفرنسية، حيث بادرت جريدة «لوفيغارو» إلى أخذ تصريح منه، أكد فيه أنه ينتمي إلى الأسرة العلوية الشريفة، وأن له رأيا يجب اعتباره في ما يتعلق بقضية استقلال المغرب وعودة السلطان الشرعي إلى عرشه، حيث تفاجأ المسؤولون الفرنسيون قبل المغاربة بهذا التصريح الصادر عن شخص نكرة ،لا علاقة له من قريب وﻻ من بعيد بالفاعلين المعروفين على الساحة السياسية الوطنية، وبما أنه وزاني الأصل فقد كان له عطف فطري، على زعيم حزب الشورى والاستقلال محمد بلحسن الوزاني، ومن ثم فإنه لم يكن على ود مع غريمه حزب الاستقلال، بل كان يسمي كل السذج والمغفلين بـ «بقر علال»، مما جعل الأبواب مغلقة في وجه هذا الشخص المتطفل على المشهد السياسي.

 

سلطان باليما في مجموعة قصصية للمعطي الشرقاوي

حين وقع الكاتب المعطي الشرقاوي، مجموعته القصصية والتي تحمل عنوان: «قضايا جنائية»، تبين أن سلطان باليما  واحد من أبطال هذه المجموعة القصصية الواقعية، والتي يسلط فيها المعطي الضوء على قضايا شغلت بال الرأي العام خلال مسيرته المهنية كضابط للشرطة.

مجموعة المعطي الشرقاوي القصصية، عبارة عن محكيات وقصص تكشف عن جهود السلطات الأمنية لمكافحة الجريمة في زمن بالأبيض والأسود، وفي ظل غياب الإمكانيات المرصودة اليوم لمكافحة الإجرام، وغياب وسائل الاشتغال الحديثة من مسرح الجريمة والشرطة التقنية وغيرها من التقنيات التي تساعد رجال الأمن اليوم على إنجاز مهامهم بسرعة وفاعلية.

بين صفحات هذه المجموعة يحضر سلطان باليما مرات ومرات، يسقط في أيدي الأمن الوطني ويعترف بأفعاله والاحتيالية ويضيف مع مطلع كل يوما أسماء جديدة لقائمة ضحاياه، بافتخار تارة واعتزاز بنجاح العملية مصرا على وصف ضحاياه بـ «بقر علال».

حين سألت المعطي عن شخصية الوزاني، اكتفى بالقول إنه «مجرم نصاب لا يستحق منا كل هذه الهالة»، ومن خلال المجموعة القصصية البوليسية «قضايا جنائية»، يسلط الضابط الرياضي الضوء على أشهر عملية احتيال قام بها سلطان باليما في ضواحي الرباط حين يتوجه نحو أحد الفلاحين الفرنسيين ويدعي بأنه موفد القصر الملكي، وبأنه يريد اقتناء كل المحصول من الزيتون، ويشرع في نقله عبر شاحنة يأتمر سائقها بأوامر الوزاني. لم يسدد فاتورة البضاعة وطلب من الفلاح انتظار مكالمة من القصر.

 

الكنفاوي يحول مغامرات سلطان باليما إلى عمل مسرحي

ظل الكاتب المسرحي عبد الصمد الكنفاوي مرتبطا في أعماله بالواقع المغربي، كان مساره يعكس بقوة واقع المجتمع المغربي. بل إن أعماله كانت تتميز، أساسا، بواقعيتها وأصالتها، فضلا عن بحثها في اللغة وتشبثها بالدفاع عن الإنسان، مما أعاد الاعتبار للمسرح الشعبي، من خلال مجموعة من المسرحيات المرتبطة بالواقع نذكر منها: سلطان الطبلة وبوكتف ومسرحية مولا نوبا وسلطان باليما وسي التاقي.

كان عبد الصمد الكنفاوي يؤمن بضرورة ارتباط المسرح بالشرائح الاجتماعية الأكثر عرضة للهشاشة وعسف السلطة وعنفها. وقد أفصحت جل النصوص المسرحية، التي كتبها عبد الصمد الكنفاوي، عن جرعات قوية من فضح مواكب الزيف والنفاق والفساد المستشري في أوصال المجتمع. وكان ذلك سببا في منع عرض بعض أعماله.

مسرحية «سلطان باليما» تختلف من حيث الحبكة الفنية عن سيرة رجل بدوي استغل حاجة البسطاء وطمع الأغنياء ينصب كمائنه، ويستفيد من التخلف والهشاشة والجشع ويجعل منهم بضاعته اليومية التي لا تبور ولا تصاب بالكساد.

من خلال هذا العمل المسرحي ظل الممثلون يرسلون على امتداد ساعة ونصف رسائل بأسلوب ساخر، لكنها تحذر المواطن من الاختراق السهل، وعدم الانحناء لكل من يرتدي لباسا مخزنيا أو يركب سيارة فارهة أو يدخن سيجارة كوبية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى