سلة غذاء العالم
تتهم شركة موزاييك الأمريكية المتخصصة في بيع الأسمدة المستخلصة من فوسفاط المكتب الشريف للفوسفاط بإغراق السوق الأمريكية بمنتجاته وبكونه يستفيد من دعم الدولة. وزارة التجارة الأمريكية فتحت تحقيقا حول هذه الشكوى التي استهدفت أيضا الفوسفاط الروسي.
المكتب الشريف للفوسفاط كان رده واضحا، إذا فرضت وزارة التجارة الأمريكية رسوما على دخول الفوسفاط المغربي لأسواقها فإن المكتب سيبحث عن أسواق أخرى غير السوق الأمريكية.
مؤخرا تنهج وزارة التجارة الأمريكية سياسة حمائية عدوانية تجاه الجميع، فعلت ذلك مع فرنسا والاتحاد الأوربي، ومع كندا والصين ودول كثيرة، وعندما طلبت من روسيا مساعدتها لمحاصرة الصين تجاريًا ورفضت موسكو ذلك بدأت وزارة التجارة الأمريكية بمحاربة دخول منتجات روسيا للأسواق الأمريكية، ومنها الفوسفاط.
لكي نفهم أسباب الهجوم الأمريكي على الفوسفاط المغربي علينا أولًا أن نعرف من تكون شركة موزاييك التي اشتكت بالمكتب الشريف للفوسفاط لدى وزارة التجارة الأمريكية. إنها الشركة التي تنافس الفوسفاط المغربي على 729 مليون دولار التي يحققها المكتب سنويا كمبيعات في السوق الأمريكية، والتي تريد أن تفتح السوق الأمريكية أمام الفوسفاط السعودي عبر شركة معادن السعودية التي تمتلك فيها أسهمًا بنسبة 25 في المائة.
مؤخرا قررت المملكة العربية السعودية استغلال حقول فوسفاطها بعدما تراجع الطلب على البترول، والسوق الأمريكية تبتلع لوحدها كميات هائلة من الفوسفاط بالنظر إلى النشاط الفلاحي الضخم للقارة.
والواقع أن حلم شركة موزاييك منذ سنوات كان هو الحصول على نسبة من أسهم المكتب الشريف للفوسفاط،
وقد تم استعمال عدة طرق، منها الوقوف وراء دراسات تتنبأ بقرب انتهاء احتياطي المغرب من الفوسفاط، علمًا بأن المغرب يتوفر على أكثر من سبعين بالمائة من الاحتياطي العالمي من هذه المادة. ومرة عبر ترويج نتائج أبحاث تدعي أن الفوسفاط المغربي يحتوي على مواد ضارة.
لكن هذا المسعى خاب، ولذلك لم يبق أمام هذه الشركة سوى اللجوء إلى القوانين الحمائية للي ذراع المغرب.
يتضح الآن أن الديمقراطية وحقوق الإنسان مفاهيم تعيش عليها المجتمعات في أوقات الرخاء الاقتصادي والترف الفكري، أما عندما تتبدل الأحوال وتأتي الأزمنة الرديئة فإن الأنظمة تعود إلى طبيعتها الأصلية، أي السلطوية لضمان البقاء لها ولشعوبها.
ما يحدث أمامنا اليوم على طول الكرة الأرضية يؤكد هذا الاستنتاج. أمريكا التي كانت إلى حدود الأمس تقود العالم وتنقط للدول والأنظمة حول احترام حقوق الإنسان رأيناها ترفع سوط الحرب التجارية في وجه الجميع دفاعًا عن منتجاتها الوطنية.
وقد رأينا في بداية الجائحة دولًا لطالما أعطت العالم دروسًا في الديمقراطية واحترام الشرعية الدولية تتصرف كأي قرصان من القرن الوسيط. دول تسطو على شحنات قفازات وأقنعة دول أخرى في المحيطات كما كان يحدث أيام القرصنة البحرية، طائرات تحمل معقمات وآلات تنفس يتم تغيير اتجاهها لمن يدفع أكثر، شحنات أدوية تباع فوق أرصفة المطارات في المزاد العلني كما كانت تباع قبل قرون شحنات القهوة والشاي في مرافئ المستعمرات البعيدة.
وعندما يتعلق الأمر بالغذاء، لأن الاقتصاد بالنهاية هو ضمان الغذاء، تنسى الأنظمة كل مبادئها وشعاراتها وحتى خلافاتها، لأن ما يهمها هو ضمان بقاء شعوبها على قيد الحياة. وطيلة الأشهر الثلاثة من بداية الجائحة رأينا كيف أن دول الاتحاد الأوربي التي كانت تقيم الحروب ضد المغرب في البرلمان والاتحاد الأوربي، بسبب المنتجات الفلاحية والبحرية القادمة من الأقاليم الصحراوية، طالبت المغرب بأن يصدر إليها المنتجات الفلاحية بما فيها تلك القادمة من الصحراء.
ولهذا عندما حصلت فرنسا على 40 مليار أورو من الاتحاد الأوربي لتمويل خطة التعافي من آثار الجائحة أول شيء قام به ماكرون هو إخبار الفلاحين بأنه يضمن لهم سبع سنوات من العمل لضمان الاكتفاء الذاتي في الغذاء.
هنا نفهم النظرة بعيدة المدى للمخططات الفلاحية التي أطلقها الملك قبل 15 سنةً الأخيرة والتي بفضلها حقق المغرب الاكتفاء الذاتي في الخضر والفواكه والقطنيات والتمور والحليب ومشتقاته واللحوم بكل أنواعها وتربية الأحياء البحرية.
خلال الجائحة رأينا كيف أن مصانع العالم أقفلت والقلة القليلة التي أبقت على أبوابها مفتوحة كانت تدور عجلتها ببطء ولذلك فإن الطلب على النفط تراجع، وبالتالي فأسعاره تهاوت، والدول التي يشكل النفط عماد اقتصادها، مثل الجزائر التي يشكل النفط والغاز 99 بالمائة من عائدات صادراتها، وجدت نفسها بعد مدة قصيرة أمام أزمة غذاء غير مسبوقة.
ويتضح مما نعيشه اليوم أن العالم يستطيع أن يتخلى عن البترول لكنه لا يستطيع أن يتخلى عن الغذاء، وبدون فوسفاط يستحيل أن نتحدث عن الغذاء، فهو المادة الأساسية والضرورية في كل زراعة على وجه الكرة الأرضية.
هنا سيكون مفيدًا أن نذكر بما سبق أن نشرته المجلة الأمريكية الشهيرة ساينس في دراسة لعلماء أمريكيين متخصصين أكدت أن الفوسفاط سيتحول إلى الثروة الطبيعية الأولى في العالم.
وأكدت الدراسة نفسها أن الفوسفاط المغربي سيزيح النفط، لأن المغرب يتوفر على احتياطي يغطي 700 سنة القادمة.
إن الثروة التي ستقوم حولها الحروب والنزاعات لم تعد هي البترول بل الماء والفوسفاط، لكونهما عصب الغذاء والصناعات المرتبطة به، أي بالنهاية أساس الاستقرار واستمرار النوع البشري.
كل التوقعات تشير إلى أن المغرب سيتحكم في إنتاج الفوسفاط لأنه يملك 75 في المئة من الاحتياط العالمي، مما سيجعله بلدا غنيا.
هذا يقودنا إلى الاعتقاد أن المغرب أمامه مستقبل واعد بإذن الله، لأن مستقبل العالم الغذائي سيكون عندنا. يكفي فقط أن يضع صانعو السياسات العمومية القطاعات المتعثرة فوق السكة وأن يضعوا ثقتهم في أبناء البلد الوطنيين الغيورين عليه وعلى وحدته، وأن يزيحوا من طريقه السياسيين المرتزقة الذين لا هم لهم سوى امتيازاتهم ومناصبهم وتقاعدهم المريح.