سرقات واختلاسات بملايين الدراهم تهز قلعة الموثقين بالمغرب
أصبحوا ضيوفا على الصفحات الأولى للجرائد، لا يكادون يغادرونها إلا ليعودوا إليها من جديد. ما الذي يقع داخل قلعة الموثقين بالمغرب؟ ليس عاديا أبدا أن يدان موثقون ويفر آخرون بودائع تقدر بملايين الدراهم. الأمر بات مقلقا، خصوصا وأن النصابين الذين ينتمون إلى مهنة التوثيق أصبحوا في ازدياد.. تحركات وسط جسم الموثقين، لكنها لا ترد على سؤال كبير: من يحمي المواطنين من موثقي السرقات؟
أسرار مهنة التوثيق في المغرب!
لن نكون مبالغين إن قلنا إن أغلب العناوين التي تتناول مجال مهنة التوثيق بالمغرب، تكاد تكون متشابهة. فرار موثقة أو موثق، خيانة للأمانة، التي يقول الموثق إنها صلب مهنته. ما الذي يجري بالضبط خلف قلعة الموثقين؟
سيكون من غير العادل أن نسمع إلى كل أولئك الذين يرون في الموثقين أعداء، دمروا حياتهم وممتلكاتهم، وودائع أسرهم. كل شيء يمكن أن يكون موضوعا للنقاش، أو غض الطرف، إلا عندما يتعلق الأمر بالمال.
المال وحده من قاد الكثيرين إلى الصراخ في وجه ثلة من الموثقين في مدينتي الدار البيضاء والرباط على الخصوص. يتعلق الأمر هنا بملايين الدراهم، أي أن القضايا المعروضة للنزاع تهم عقارات ومساكن فاخرة وودائع، بالإضافة إلى ممتلكات تختلف قيمتها المادية باختلاف الأماكن التي شيدت فوقها.
تفجرت في أوساط الرأي العام المغربي، فضائح بالجملة تهم بعض الموثقين. وقتها ساد صمت رهيب وسط دهاليز كبار هذه المهنة والقائمين عليها، لكن اليوم لم يعد مسموحا بالمزيد من الصمت، وسيخرج رئيس المجلس الجهوي بالدار البيضاء، ليتحدث عن واقع مهنة الموثق، ويستنكر ما آلت إليه المهنة على يد بعض أبنائها.
موثقون فارون من العدالة، استغلوا ثقة الوافدين إلى مكاتبهم طلبا لخدمة تقوم أساسا على المقاربة الوقائية للشخص المتعاقد، في إطار الأمن التعاقدي، الذي تنص عليه مهنة التوثيق وتحاول تكريسه في التعاملات الإدارية والتملك. هؤلاء الموثقون الفارون بودائع الناس، إلى خارج البلاد، كما وردت بعض الأخبار التي أكدت هذا الأمر في وقت سابق، أصبحوا يشكلون وصمة عار على جبين جسم الموثقين في المغرب.
ماذا وقع؟ كل ما في الأمر أن طبيعة عمل الموثق، تجعله على اطلاع بكل المعلومات المالية الدقيقة للأطراف الوافدة عليه طلبا لخدماته. الضمير وحده، من يجعل موثقا يتفانى في أداء خدماته التي يتقاضى عنها أرباحا، تكفل له العيش الكريم، كما تنص على ذلك أسس المهنة التي يعود تاريخها إلى ظهير سنة 1925.
90 سنة، عقود طويلة إذن من مهنة التوثيق بالمغرب. القليلون يعلمون طبيعة عمل الموثق، كل ما يعلمه العامة، أن الموثق مخول له إنجاز التعاقدات، وتخول له مهنته الإشراف على أموال كثيرة لضمان انتقالها في عمليات البيع بين المواطنين.
لا أحد يستطيع التنبؤ بما سيقوم به موثق من الموثقين، والسبب حسب الموثقين أنفسهم، أو بالأحرى على لسان أحدهم: «الموثق إنسان في نهاية المطاف، يمكن أن يخطئ، لكن المطلوب أن يتدارك الخطأ. المهنة برمتها تقوم على مسألة الثقة التي يضعها الذين يقصدون الموثق طلبا لخدماته».
قصص الناس مع نماذج الموثقين الفاسدين كثيرة. القضاء يقول كلمته في أغلب الحالات الوافدة عليه، ويحيل أخرى للدراسة قبل البت في تشعباتها. لكن الأكيد أن شيئا ما، ليس على ما يرام في قلة الموثقين. المهنة تحيط بها هالة كبيرة من القداسة، لأن أهلها حازوا احتراما منذ سنوات مبكرة سبقت استقلال المغرب بعقود، وبعد الاستقلال، بات على القانون أن يتغير ليلائم خصوصية الموثقين المغاربة، الذين ازداد عددهم بازدياد ابتعاد المغرب عن محطة تاريخية اسمها الاستقلال.
خلال السنوات الأخيرة الماضية، بات الموثقون، ضيوفا دائمين، على الصفحات الأولى للجرائد الوطنية، والمواقع الإخبارية. اختلاسات بالملايير. نعم، ليس في الأمر مبالغة تذكر. يكون على الموثق أن يبرم عقودا لملكيات تفوق قيمتها المالية ملايين الدراهم، ولا رقيب عليه إلا ضميره، أمام الثقة الكلية التي يودعها فيه، جميع الذين يقصدون مكتبه طلبا لخدماته الحصرية.
بعض الذين وقعوا ضحايا لعمليات نصب أبطالها موثقون، أصبحوا يعيشون على «الحديدة» كما يقال، وربما لا يجدون بعد تنفيذ الموثق لعملية النصب، حتى الحديدة للاتكاء عليها ابتلاعا للصدمة.
حالات كثيرة، تتجدد كل سنة، فيما تتقادم أخرى، ليصبح واقع مهنة التوثيق محط كثير من التساؤلات.
مهاجرون مغاربة قضوا عقودا من أعمارهم في بلاد الغربة، وعادوا بـ«تحويشة» العمر إلى المغرب، لكنهم فوجئوا في الأخير بأن الأمور لم تسر حسب ما خططوا له، وأنهم أصبحوا ضحايا لعملية نصب كبيرة، كان الطرف الآخر فيها، هو الشخص الذي عهدوا إليه بالثقة منذ البداية!
الأربعاء الماضي، عقد في الدار البيضاء لقاء لتدارس آفاق مهنة التوثيق، وسط اللغط الذي أحاط بها، أخيرا. موثقون حضروا بكثافة، علهم يفهمون سر هذه الضربات المتتالية التي تتلقاها مهنة التوثيق بالمغرب، وكيف أن زملاء لهم أصبحوا دون سابق إنذار، نصابين، متورطين في سرقات بملايين الدراهم، يلاحقهم المواطنون والقضاء.
سمعوا بدورهم عن موثقين فروا إلى الخارج، ولم يتقبلوا أن يتم سحب جوازات سفر الموثقين، واعتبروا الحديث عن هذا الأمر، تعميما على الموثقين، وإهانة للموثقين الشرفاء.
سرعان ما تحول الهمس، داخل القاعة التي احتوت اللقاء، إلى كلمات مسموعة، غالبيتها بالفرنسية، تعكس القلق الكبير الذي يعيشه الموثقون هذه الأيام بخصوص مستقبل المهنة بالمغرب. بعدها بقليل، تحول الأمر إلى نقاشات مشتركة، بالفرنسية دائما، حول أفق الاشتغال في إكراهات لا يعلمها إلا الموثقون أنفسهم، محاولين عكس الوجه الآخر لمشاكل الموثقين في المغرب.
أعطيت، بعدها بدقائق، الكلمة إلى ممثل الموثقين في الدار البيضاء، رئيس المجلس الجهوي، والذي كان يوزع نظراته بين الجالسين، متحدثا بنبرة لا تخطئها الأذن، لتعكس أسفا كبيرا على ما وصلت إليه مهنة التوثيق في المغرب.
في الوقت الذي كان هو يلقي كلمته التي عرف في بدايتها بالمهام السامية للموثق، كان البعض قد انحنوا على أوراقهم، باحثين ربما عن خلاص من حقيقة، تقول إن النصب الذي مارسه بعض الموثقين على المواطنين، في ازدياد.
الكلمة ذاتها، نقلت أسفا كبيرا، واعتذارا، اعتبره الكثيرون موقفا إيجابيا، يعكس شجاعة الغيورين على المهنة، للاعتراف بالمشكل الذي باتت تعانيه مهنة التوثيق في المغرب، بدل تجاوزه أو إنكاره أو الهروب إلى الأمام.
ثم جاءت كلمة الرجل الذي انتظر الموثقون الحاضرون مداخلته باهتمام. لا يمكن أن يكون كلام حسن مطر، الوكيل العام للملك، عابرا، ورغم أنه يتحدث من خارج مهنة التوثيق، إلا أن رأيه يبقى بالغ الأهمية نظرا للدور الذي يلعبه في التعامل القانوني والقضائي مع الموثقين.
مهنة التوثيق نفسها لا يمكن رميها خارج رحم القانون.. كلمة حسن مطر، أشارت إلى جوانب مظلمة، أثارت تعجب الموثقين أنفسهم. فالرجل تحدث عن أزيد من 3000 آلاف مراسلة كلها بخصوص أخطاء ارتكبها موثقون. بالإضافة إلى 87 شكاية ضد الموثقين.
يتفصل مطر في كلمته، ليعطي صورة عن حجم الكارثة التي أصبحت تهدد مستقبل التوثيق في المغرب، خصوصا وأن الذين عقدوا اللقاء، أرادوه للحديث عن آفاق مهنة التوثيق. وبدا أن الأفق مضبب بغيوم كثيفة، تنتظر ريحا لتجلي عنها ما بات يعرف بالواقع الأسود لمهنة التوثيق في المغرب.
آخر الفضائح : تفتيش مكتب موثق يعري حقيقة خيانة الأمانة ولغز الودائع الناقصة
الملفات التي فر على خلفيتها موثقون، وتوبع آخرون، ويتابع غيرهم، كثيرة وتتجاوز قيمة المبالغ المتنازع بشأنها مع الموثقين اليوم بالمغرب، والمعروضة حاليا أمام القضاء، ملايين الدراهم.
خلال الأسبوع الماضي فقط تمت إحالة موثق بالرباط على القضاء، وذلك بسبب اختلالات في مجريات عملية تفويت عقار. نتحدث هنا عن 20 مليون درهم، كما حددتها شكاية المواطنين الذين تضرروا من الطريقة التي طالت عملية التفويت.
الجهات المختصة، ممثلة عن النيابة العامة، بالإضافة إلى ممثل عن وزارة الاقتصاد والمالية، مرفوقة بممثل عن المجلس الجهوي بالرباط، قاموا بعملية تفتيش لمكتب الموثق المعني بأمر الاختلالات، ليجدوا أن المبالغ المالية المودوعة لديه، ناقصة، وهو ما يعني أن عملية تفويت العقار لن تتم وفق القانون، بسبب هذا النقص.
سرعان ما عمم المجلس الجهوي، بلاغا للرأي العام، بخصوص الواقعة، قال فيه إن التحقيقات القضائية جارية لم تتوقف بعد، وما زال البحث جاريا في ملابسات الملف. البلاغ ركز في شق مهم منه على ضرورة تعويض الضحايا، بشكل سريع.
في الاتصالات التي أجرتها «الأخبار» مع بعض المصادر القريبة من الملف، تبين بالملموس أن الضرر الذي طال المعنيين بالملف، في مواجهة الموثق الذي فُتش مكتبه ليسفر التفتيش عن كشف نقص في الودائع التي تم ائتمانه عليها، تبين بالملموس أن هناك ارتياحا في صفوف المعنيين بعد مباشرة السلطات لتلك الإجراءات. يقول المصدر نفسه معلقا، إن حالات كثيرة فر خلالها موثقون، وبقي الضحايا عاجزين عن استرداد ودائعهم، أو إلغاء التعاقد الذي أشرف عليه الموثق، في أحسن الحالات.
سنرى في ما سيأتي في هذا الملف، كيف أن المجلس الجهوي للموثقين بات في وضع يستوجب منه ردا قاطعا على استفحال ظاهرة تلاعبات الموثقين. ناقوس خطر دقته الصحافة في السنوات الأخيرة، ويبدو أن تمثيلية الموثقين، ماضية في طريق حماية شرفاء المهنة، من استفحال ظاهرة النصب على الذين يلجؤون إلى خدمات الموثق.
خيانة الأمانة.. المعضلة الكبرى أمام الموثقين
هنا قصة سيدة، تتوفر «الأخبار» على وثائق ملفها، في مواجهة المجهول مع موثق فار من العدالة، بعد أن تفشت ظاهرة فرار بعض الموثقين بودائع زبنائهم، إلى وجهات غير معروفة. دار نقاش كبير حول إمكانية سحب جوازات السفر من الموثقين موضوع الشكايات، وتراشقت الأطراف باتهامات كثيرة، يبدو أن ما تبقى في البلاد من موثقين شرفاء، لا يرغبون في دفع تكاليفها المعنوية بشكل جماعي.
البداية، رواية لسيدة كانت تعمل في إحدى الدول الأوربية منذ سبعينات القرن الماضي. عادت قبل ثلاث سنوات، للاستقرار نهائيا بالمغرب، بعد أن حصلت على تعويض مجز من الشركة التي شغلتها لما يقارب أربعة عقود. أرادت أن تشتري شقة في إحدى العمارات المطلة على شارع 2 مارس بالدار البيضاء، باقتراح من أفراد عائلتها الذين نشؤوا جميعا في أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة الاقتصادية.
بدأت الرحلة شاقة، ومضنية، تخللتها بعض محاولات النصب من طرف السماسرة الذين يطلبون في الغالب تعويضات خيالية عن خدمات اقتراح المنازل المعروضة للبيع في أفخم أحياء الدار البيضاء، والتي تكون بالضرورة الأكثر طلبا من طرف الزبائن الباحثين عن شقق فاخرة في العاصمة الاقتصادية. وفعلا قادها السماسرة إلى الاهتداء إلى رقم هاتف رجل يعرض شقة للبيع بملغ 300 مليون سنتيم بالشارع نفسه.
لم يكن الأمر يتطلب أكثر من إزالة الملصق الكبير من الشرفة: «للبيع»، بالإضافة إلى الرقم الهاتفي، ليرفع بذلك الستار، عن بداية معاناة أخرى.
اتفقت السيدة مع البائع صاحب الشقة، وقصدا أحد الموثقين بالدار البيضاء، وجلسا في مكتبه لإجراء الترتيبات الأولية. الموثقة تواصل شرحها مؤكدة أن السيدة، في ما بعد، دفعت المبلغ كاملا على دفعات عبر إحدى الوكالات البنكية، بحضور مدير الوكالة البنكية شخصيا. اتجه البائع والسيدة إلى مكتب الموثق لتوقيع عقد البيع النهائي، وأكد البائع أنه توصل بالمبلغ كاملا. بعد اللقاء اختفى الرجل إلى الأبد، لتفاجأ السيدة بعد عودتها إلى مكتب الموثق للاستفسار، ليقول لها الأخير إن العقد الذي وقعته ليس عقد بيع كامل، وإنما هو وعد بالبيع فقط، وعليها أن تسدد 200 مليون سنتيم، لأن المبلغ المسجل بوعد البيع محدد في 100 مليون فقط.
حاولت السيدة تنبيه الموثق إلى أنها أعطت صاحب الشقة 300 مليون سنتيم كاملة غير ناقصة، وأن مدير الوكالة البنكية كان شاهدا على العملية شخصيا، وأنه أقر بالأمر أمامه في مكتبه الذي يجلسان فيه الآن، لكن السيدة لا تملك دليلا ماديا على كلامها، وأن الوثيقة التي في يد الموثق تكذب أقوالها. عندما اطلعت السيدة على الرسم العقاري للشقة في المحافظة العقارية، تبين لها أن العقار مثقل بأكثر من رهن لفائدة إحدى الوكالات البنكية المعروفة، وصدر بخصوصه حجز تنفيذي، أي أن الموثق لم يخبرها بالمشكل المتعلق بالعقار، وأنه حاول توثيق بيع شقة في يد القضاء وليس في يد مالكها الأول. السيدة اعتبرت أن الموثق أخفى عنها الحقيقة وتواطأ ضدها مع البائع.
في الأسبوع الجاري، عقدت ندوة في العاصمة الاقتصادية، حضرها موثقون، وأعضاء مكتب المجلس الجهوي بالدار البيضاء، بالإضافة إلى حسن مطر، الوكيل العام الملك، وعرض فيها الأخير وجهة نظر القضاء، وأبدى حسن نية في التعامل مع الموثقين الغيورين على مهنة التوثيق، أمام استفحال فضائح تدين الموثقين، وتكاد تتشابه تفاصيلها، وتتقارب الأرقام التي توثق قيمة الأموال موضوع النزاع بين الموثقين المتهمين وبين المطالبين باسترداد أموالهم.
هل تنفجر قلعة الموثقين بازدياد الضغوط؟
قبل التفصيل في مجريات اللقاء الأخير، الذي جمع نخبة من الموثقين للتداول في ما آل إليه واقع المهنة، والفضائح الأخيرة التي أصبحت تطارد الموثقين، لنعرج على قضية أخرى، من شأنها أن تنعش ذاكرة المهتمين، خصوصا وأننا نرمي في هذا الملف إلى التذكير بأغرب الفضائح التي أساء فيها موثقون مدانون إلى واقع مهنة التوثيق بالمغرب، وخلف الأمر استنكارا كبيرا لدى الغيورين على المهنة.
حتى الضحايا، غير العاديين، لم يفلحوا إلى اليوم في التأثير على ما بات يعرفه واقع مهنة التوثيق في المغرب، من حالات نصب، تعرف هيجانا بين الفينة والأخرى، إلى الحد الذي بدا من خلاله الأمر، أن أصحاب القرار والكبار، باتوا بدورهم غير قادرين على ضمان ثقة الموثقين الذين أصبحوا موضوع اتهام.
الأمر هنا يهم ضحايا غير عاديين لموثقين في الدار البيضاء والرباط ومدن مغربية أخرى، خصوصا السياحية منها. بعض هذه الوقائع مر عليها عامان تقريبا.. لكنها تجتمع مع قصص أخرى غيرها، جرت ملابساتها، أخيرا، لتكشف أن قصص النصب تتناسل وتتشابه في تفاصيلها، ويكون دائما أبطالها موثقون يخونون الأمانة، وتواجه تصرفاتهم المسيئة إلى مهنة التوثيق، باستياء المهنيين.
ليس المواطنون العاديون وحدهم من تعرضوا للنصب على يد موثقين نصابين، حتى علية القوم بمن فيهم أمراء من بعض الدول العربية، الذين يختارون المغرب كوجهة للاستثمار العقاري والسياحي تعرضوا للنصب على يد عدد من الموثقين، والنتيجة كانت استحواذهم على مبالغ مالية قدرها القضاء بالملايير، استطاعوا الحصول عليها عبر استغلال مهامهم للاستحواذ عليها دون علم أصحابها، ووضعهم في الأخير أمام الأمر الواقع قبل الاختفاء عن الأنظار، أو الهروب إلى خارج البلاد، كما وقع في العام 2011 لأحد الموثقين.
تعود القضية إلى إبرام أحد الموثقين لمجموعة من العقود تخص عشرات الزبناء، تصل قيمتها مجتمعة إلى 50 مليار سنتيم، هرب بها إلى كندا، على اعتبار أنه يتوفر على الجنسية الكندية.
الصحافة الوطنية، خلال السنوات الأخيرة، نشرت على صدر صفحاتها أخبارا متفرقة عن موثقين قاموا بعمليات نصب قدرت بمئات الملايين ووصلت إلى الملايير في حالات أخرى. ولجأ الضحايا، حسب تلك الجرائد إلى القضاء ووضعوا شكايات لدى الغرفة الوطنية لهيئة الموثقين، بخصوص استيلاء أحد الموثقين على ودائعهم، فيما فضل آخرون اللجوء إلى النيابة العامة التي حركت المتابعة في حق الموثق المفترض.
الموثق، الذي نصب على عائلة أحد الوزراء السابقين، كما تقول قصاصة إخبارية: «الموثق نصب على عائلة وزير سابق أثناء عملية بيع فيلا في ملكيتها، وامتدت عمليات النصب إلى إحدى الشخصيات الكبيرة في الإمارات العربية المتحدة أثناء توثيق أرض فلاحية بالملايين، وأرملة لها وديعة بقيمة 178 مليون سنتيم، في حين تتابعه شركة في ملف شيكات بدون رصيد قيمتها 400 مليون سنتيم».
تقول القصاصة إن بداية الموثق في النصب ابتدأت من بني ملال، إذ نصب على أرملة وأبنائها أثناء تسجيل عقد وسحب منها مبلغا ماليا وصفته بالكبير جدا، قبل أن يختفي عن الأنظار. المصادر التي اعتمدها الصحفي الذي نقل الخبر، أكدت له أن الموثق فر إلى وجهة مجهولة، وأن المصالح الأمنية تجهل مكانه. لكنه، أي الصحفي، عبر مصادر أخرى علم أن الموثق فر عبر موريتانيا إلى كندا، بحكم أنه لا توجد بينها وبين المغرب اتفاقية تسليم المتهمين. إلا أنها أكدت أن كل الأخبار تبقى تكهنات في غياب أدلة ملموسة. وفي السياق نفسه، ذكرت المصادر عينها أن بإمكان المتضررين الاستفادة من صندوق ضمان الموثقين، الذي يشكل إحدى الآليات الأساسية التي يتضمنها القانون المنظم لمهنة التوثيق، والذي يهدف إلى صون حقوق ومصالح المواطنين المتعاملين مع الموثقين، وأحد المكتسبات التي كانت متضمنة في ظهير 4 ماي 1925، وحافظ عليها قانون 09-32، مع اعتماد بعض التعديلات تهم تدبير الصندوق وتركيبته في اتجاه تعزيز الحكامة الجيدة والشفافية وتجنب مثل هذه الحالات.
هكذا استقبل الموثقون فضائح زملائهم في المهنة : شددوا على أن التوثيق أمن تعاقدي وتأسفوا على واقع المهنة
الأربعاء الماضي، بالدار البيضاء، اجتمع الموثقون، للتداول في واقع مهنة التوثيق، وما بات يحيط بها من اتهامات. هذه التهم لم تأت من فراغ، ولا دخان بدون نار كما يقال، لكن الموثقين في ذلك اللقاء أصروا على الكشف عن وجهة النظر الأخرى، متبرئين ممن هم في وضعية اتهام.
منذ الثالثة بعد الزوال، دبت حركة غير عادية في القاعة، ليفد البعض إلى المقاعد الأمامية. علامات التوتر كانت واضحة، ولا حاجة إلى مجهود لقراءة الملامح لاستخراج علامات القلق.
الدردشات الجانبية، قبل انطلاق اللقاء الذي استضاف فيه الموثقون، حسن مطر، الوكيل العام للملك، تقول إن هؤلاء الحاضرين اليوم، باتوا مستائين أيضا من واقع مهنة التوثيق.
بدا الأمر واضحا أيضا من خلال الكلمة الافتتاحية التي ألقاها رئيس المجلس الجهوي للدار البيضاء أمام الموثقين.
الحديث كان مبرمجا عن آفاق مهنة التوثيق، لكنه لكي يكون منطقيا، كان عليه أن يتحدث عن واقعها أيضا. واقع مرير، لا يحتاج الموثقون إلى الاعتراف به، لأنه واقع يتعايشون معه كل يوم.
من بين ما جاء في كلمة رئيس المجلس الجهوي، أنه اعتبر القضايا التي تتهم موثقين بالنصب على الذين وضعوا فيهم ثقة تحرير عقود ممتلكاتهم وودائعهم، مجرد سحابة صيف عابرة. الأمر استوجب تصفيقات الحاضرين، تعبيرا عن اتفاقهم مع ما ذهب إليه رئيس المجلس الجهوي.
«الثقة هي التي تميز مهنة التوثيق، وهذه المهنة من أقدم المهن بالمغرب، وهي موجودة منذ أزيد من 90 سنة». هذا المقتطف يحيل على عامل الثقة، والخلل الذي يعاني منه واقع الموثقين اليوم، مرده إلى مساس بعض الموثقين بعامل الثقة. هؤلاء، اعتبرهم رئيس المجلس الجهوي وصمة عار، ويتبرأ منهم الموثقون الشرفاء الذين اعتبرهم «يشتغلون بضمير مهني داخل مهنة من أعرق المهن، لها دور وقائي، يصب في باب الأمن التعاقدي».
من يحفظ للمغاربة أموالهم؟
دعونا نتساءل، عن مستقبل أموال المغاربة وممتلكاتهم، ما دام الجمع الذي عقده الموثقون ليلتقوا فيه بحسن مطر، الوكيل العام للملك، خصوصا وأن الكلمة التي ألقاها رئيس المجلس الجهوي، تناولت بالأساس عامل الثقة في الموثق والدور الوقائي المنوط به، لعقود طويلة، في إبرام عقود المواطنين.
عاد رئيس المجلس الجهوي في كلمته بالتاريخ إلى الوراء، ليذكر الحاضرين أن قانون 4 ماي 1925، في مادته الأولى اعتبر الموثقين أجانب، إلى أن جاء التعديل القانوني ليشمل هذه النقطة، ما دام المغاربة قد أصبحوا موثقين أيضا، بل وتفوقوا على الفرنسيين في الكفاءة المهنية.
بنبرة حزينة، خلال الكلمة ذاتها، قال رئيس المجلس الجهوي إن الأحداث المشؤومة، وقصد بها فضائح باتت موضوع الرأي العام الوطني أبطالها موثقون متهمون باختلاس أموال وكلائهم، وخيانة الأمانة، والهرب بالأموال إلى الخارج، (قال) إنها تسيء إلى مهنة التوثيق. لم يفته أيضا أن يثير انتباه الحاضرين، أغلبهم موثقون ويعلمون جيدا إكراهات مهنتهم، إلى أن الموثقين كانوا من قبل، يتعاملون مع الأبناك معاملة خاصة، لكن بعد التعديل، أصبحوا ملزمين بالإيداع الفوري لدى الأبناك التي يتعاملون معها.
هذه الإشارة وحدها، كانت كفيلة بإثارة عشرات الموثقين الذين حضروا اللقاء، لينخرطوا في موجة تصفيق، تجاوبا مع مسألة تعامل الموثقين مع الأبناك.
في ختام كلمته، اعتذر رئيس المجلس الجهوي، عن الوقائع الأخيرة التي همت قطاع الموثقين، ودعا زملاءه في المهنة، إلى الالتزام بالقانون إلى حين تعديله.
حسن مطر : «3 آلاف مراسلة تهم أخطاء الموثقين و87 شكاية ضدهم»
الكل كان ينتظر كلمة حسن مطر، الوكيل العام للملك، في اللقاء الذي نظمه المجلس الجهوي للموثقين. بدا وكأن الحاضرين جميعا أصبحوا أكثر اهتماما، عندما كان الرجل يقطع المسافة الفاصلة بين مقعده، وبين المنصة المخصصة لإلقاء الكلمة التي جاء من أجلها.
لم يستغرق الأمر منه وقتا طويلا، وبدا أيضا أن واقع كوارث بعض الموثقين، لم يعدد ممكنا السكوت عنه بعد اليوم. بلغة العارف، قال حسن مطر إن هناك 3 آلاف مراسلة، تتعلق بأخطاء في أسماء المستفيدين من الودائع.
رقم أثار لغطا كبيرا وسط الحاضرين، علما أنهم جميعا يعلمون واقع مهنة التوثيق في مدينة الدار البيضاء، قطب المال المغربي والاقتصاد، والتوثيق أيضا.
الوكيل العام للملك، زاد في كلمته، ليؤكد أن الموثقين مطالبون بالتدقيق في العقود، واعتبر أن الخطأ إنساني، قبل أن يضيف أنه من غير المسموح للموثق أن يرتكب أخطاء في العقود.
بالإضافة إلى الـ3 آلاف مراسلة، أكد حسن مطر، أن هناك 87 شكاية إضافية ضد الموثقين في اللحظة التي كان يلقي فيها كلمته، أي في الأربعاء العاشر من يونيو الجاري، ليؤكد أمام الموثقين أن جلسة ستعقد في اليوم الموالي، للبت في تلك الشكايات ضد بعض الموثقين.
الأجواء التي ألقى فيها حسن مطر كلمته، بالنظر إلى ثقل الرمزية القانونية التي يمثلها، حازت اهتماما كبيرا من طرف الحاضرين. لا أحد أنكر ما تتخبط فيه المهنة، يقول أحد الموثقين معلقا على اللقاء: «هذا أمر إيجابي ما دام جسم الموثقين لم يغرق في محاولات إنكار ممارسات الموثقين الفاسدين. نحن نعترف أن الكثيرين أساؤوا إلى المهنة اليوم، لكن من غير المسموح أن يسيئوا إليها غدا..».