ظل المغرب، لفترة طويلة من الزمن، متربعا على عرش الإنجازات العالمية المبهرة ومتفوقا في تحطيم الأرقام القياسية الدولية. صنعنا بفخر أكبر طاجين وأضخم كَصعة كسكس، وأعمق طبسيل مرقة، وأثقل مسمنة وأخف بغريرة، وأطول قفطان. إنجازات عملاقة أبهرت العالم ووضعت المغرب على رأس قوائم «غينيس». غير أن دوام الحال من المحال. فشل المغرب هذه المرة، وعلى غير عادته، في احتلال المراتب الأولى لمسابقة من نوع آخر. مسابقة لم يتم فيها استخدام السمن البلدي أو السفيفة أو لحم الغنمي. الأمر الذي قد يفسر عجز بلادنا عن تحقيق نتائج إيجابية في هذه المنافسة الدولية. غاب المغرب عن تصنيف شنغهاي لأفضل الجامعات العالمية لسنة 2023. التصنيف الذي حضرت فيه الجامعة التونسية ممثلا يتيما لدول المغرب الكبير، بينما مثلت جنوب إفريقيا بخجل القارة «الصكَعاء». لم يشكل تواجد الجامعة المغربية خارج التصنيف العالمي أي نوع من الدهشة أو الاستغراب لدى المواطن المغربي. كيف لنا أن نخوض منافسة متكافئة الأطراف مع عمالقة البحث العلمي والتكنولوجي؟ ونحن نفتقر لورقة بحثية محترمة نستر بها عرضنا في الدوريات العلمية لجامعات هارفرد والسوربون وكامبريدج؟ هل سنحتل مراتب مشرفة بصفقات بيع وشراء الماستر؟ أو سنحظى بمنح علمية لإثبات نظرية الجنس مقابل النقط؟ أو سنحصل على جوائز نوبل في الفيزياء النووية، من طرف باحث فر من المختبر «وهز البندير»؟ أو ستتقاطر علينا البعثات الأكاديمية للاستفادة من محاضرات صحاب الخودنجال حول التفاعلات الكيميائية التي يحدثها شرب بول البعير في الدماغ البشري؟
الدهشة الحقيقية هي تواجد الجامعة المغربية في هذا النوع من التصنيفات. يتملكنا رعب شديد، ونحن على مشارف بداية موسم جامعي جديد، من تفجر فضيحة جنسية أو ارتشائية هنا أو هناك. لم تعد الملاهي الليلية المشبوهة أو شقق الدعارة «المعلومة» المصدر الوحيد للفساد الأخلاقي وتشويه سمعة وصورة المغرب في الداخل والخارج، بل أصبح محراب العلم المقدس وكرا لجميع أنواع الممارسات اللاأخلاقية المشينة. نتذكر جميعا كيف «فركَعت» طالبة بكلية تطوان «رمانة» الابتزاز الجنسي، الذي مارسه أستاذ جامعي على طالباته. وما رافق ذلك من تسريب لصور المحادثات الخاصة، التي دارت بين الأستاذ ومجموعة من طالبات «الستربتيز مقابل النجاح». محادثات أثارت ضجة كبيرة بسبب محتوياتها القذرة التي لا تليق بمن كاد أن يكون رسولا. فضيحة تطوان تجعلنا نتساءل حول إمكانية إجراء تقييمات نفسية صارمة واختبارات سيكولوجية مكثفة لأفراد الأسرة التعليمية بجميع مستوياتها من أجل حماية المدرسة والجامعة المغربية من المنحرفين جنسيا والمختلين عقليا. بينما يصيب التوتر والقلق طلبة جامعات لندن وباريس ونيويورك حول مستقبل وقيمة ديبلوماتهم وشواهدهم العليا في سوق الشغل. ينام نوع آخر من الطلبة على «جنب الرشوة»، حيث أصبحت بعض الجامعات المغربية توزع الماستر والدكتوراه، «بطاطا بالرطل»، على طلاب أشباح من أصحاب المناصب العليا، الراغبين في تزيين مكاتبهم الفخمة بصور ديبلومات علمية رصينة. اعتمدت جميع الدول، التي شهدت ثورات صناعية واقتصادية ضخمة، ورخاء وازدهارا اجتماعيا ملحوظا، على ما يسمى اقتصاد المعرفة knowledge economy ، وهو نوع من الاستثمار المالي في العلوم والتكنولوجيا، وتطوير المهارات البشرية والتركيز على دعم البحث العلمي. يزدهر اقتصاد المعرفة في دول العالم الأول وبعض الدول النامية كالبرازيل والهند. ويعتبر هذا النوع من الاقتصاد محركا حيويا أساسيا لبناء المجتمعات الناجحة. من أهم مجالات اقتصاد المعرفة؛ البرمجة، الصناعات الطبية والعسكرية والفضائية، والهندسات الزراعية. بعيدا عن لغة الخشب، وقريبا من «المعقول»، على الجامعة المغربية أن تستثمر في الأدمغة وليس في «الجيوب أو ماتحت السمطة». الحديث عن الجامعة المغربية، هنا، ليس المقصود به علاقة الأستاذ بالطالب، أو العميد بالموظفين، بل نحن بصدد الحديث عن تصور عام لمؤسسة وطنية علمية ضخمة، تتوفر على بنيات اقتصادية ولوجستية وادارية صلبة، نستطيع من خلالها بناء وتأسيس صروح علمية قادرة على التأطير والإنتاج والمنافسة. لكن كيف السبيل إلى احتلال المراتب المتقدمة من تصنيف شنغهاي، في الوقت الذي تغص فيه مدرجات كليات الطب والهندسة، والمعاهد العلمية العليا في بلادنا، بالطلبة والباحثين الذين يحجون من كل ربوع المملكة لحضور ندوات ومحاضرات العشابة وصحاب الخودنجال؟ إن توجيه الدعوات لمثل هؤلاء المهرجين والإنصات لبهلوانياتهم حول العلوم ليس فقط إساءة للمجتمع العلمي، بل هو إساءة مجانية للدين والعقيدة. لا يمكن إلقاء اللوم في فشل الجامعة المغربية على منظومة دون أخرى. ليس من المنطقي «تعلاق» البيروقراطية أو أسلوب التدين أو عدم ربط المسؤولية بالمحاسبة، أو تهاون التشريعات القانونية المؤطرة لهذا المجال، كلما «طاحت» هذه الجامعة في قعر المستويات والتصنيفات العلمية الدولية، بل من الضروري النظر والتمحيص والتدقيق في دور كل هذه المؤسسات والأنظمة، بعيدا عن المحاباة والتملق أو الوطنية الزائفة. إن العدو الحقيقي الذي ينخر البنية المؤسساتية للمغرب، ويشكل عائقا حقيقيا نحو إحراز أي تقدم محترم في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية، هو الفساد. مادامت عملة الفساد رائجة بقوة في دهاليز المؤسسات، لن نرى جامعاتنا خارج قوائم التصنيف فحسب، بل سيضع المزيد من طلابنا وباحثينا سلاح العلم وسيرفعون شعار «العيطة».