يونس جنوحي
مارتن ريس، رفض كما رفض علماء آخرون، أن يرتبط اسمه بقراءة النجوم وممارسات العرافين. يؤكد الرجل أن كتابه “ساعتنا الأخيرة” الذي ترجمه الدكتور مصطفى إبراهيم فهمي، قراءة استشرافية لما يمكن أن نسميه نهاية العالم، والتي بناها على وقائع علمية ومؤشرات من واقع البشرية. والأهم، من الإمكانات التي تتيحها الأبحاث العلمية المتطورة خلال السنوات الأخيرة. ليس هناك مجال إذن للتنجيم. والسؤال: “هل حانت فعلا ساعتنا الأخيرة”؟
في كتابه، Our Final hour، أي “ساعتنا الأخيرة”، يتحدث العالم مارتن ريز عن الأسباب التي بنى عليها تنبؤه بشأن أحداث توقع أن يعيشها عالَم 2020، واستند إلى مؤشرات ارتفاع وثيرة تسلح العالم وارتفاع إيقاع البحث العلمي في عالم التسلح البيولوجي وتكريس الفقر في دول العالم الثالث والسباق نحو منابع النفط خصوصا في منطقة الشرق الأوسط.
يقول في تمهيد الكتاب: “هذا الكتاب وإن كان صغيرا إلا أنه مجال متسع. ومن الممكن أن يقرأ كل واحد من فصوله منفصلا على نحو مستقل تقريبا. وهي فصول تعالج سباق التسلح والتكنولوجيات الجديدة والأزمات البيئية. ومدى وحدود الابتكار العلمي، وتوقعات الحياة خارج الأرض. وقد أفدت من نقاشي مع الكثيرين من المتخصصين، على أن البعض منهم سيجدون أن عرضي هنا ينحو منحى مختلفا عن تقديراتهم الشخصية. إلا أن هذه أطروحات خلافية مثلما يكون الأمر في الواقع في كل “السيناريوهات” التي تتناول المستقبل على المدى البعيد”.
هو إذن استشراف مستقبلي، توقع فيه هذا العالم البريطاني أن يعيش العالم على إيقاع كارثة ما. فقد تحدث في تقديم كتابه عن التكنولوجيا الحيوية. وهي حسب التعريف العلمي للتكنولوجيا الحيوية: “استخدام الكائنات الحية (البكتيريا مثلا) في الصناعة. مثال ذلك في تخليق الطاقة والتخلص من الفضلات وشتى المجالات. ومن المنتجات الشهيرة في ذلك استخدام منتجات الهندسة الوراثية في النبات والحيوان والباكتيريا”.
هذا الشرح اقترحه المترجم الدكتور مصطفى إبراهيم فهمي لكتاب العالم البريطاني مارتن ريس. وقد نقل فيه للقارئ العري ترجمة لمعاني “الفتوحات” العلمية لهذا الدكتور الذي يحظى بتقدير كبير في الأوساط العلمية في كبريات الجامعة البريطانية على وجه الخصوص. إذ أن أبحاثه وتوقعاته التي بناها على الإمكانيات التي تتيحها العلوم والأبحاث على الذرة والجينات، عرفت نقاشا كبيرا في الأوساط العلمية.
عرّاف أم مُنذر؟
الدكتور مارتن ريس، ينظر إليه حماة بوابة قلعة الأبحاث العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على أنه المُنذر الأول بالأخطار التي يمكن أن تجرها الأبحاث العلمية غير المألوفة على البشرية. بينما ينظر إليه اللاهثون وراء الإثارة والعناوين، كرجل يقرأ المستقبل ويستشرف ملامحه، وغالبا ما يكون مُصيبا في التوقعات التي استطاعوا فهمها من خطابه العلمي.
حتى في العنوان الفرعي الذي اختاره لكتابه، ساعتنا الأخيرة، عرّف مارتن ريس جنس كتابه بتصنيفه داخل خانة: “إنذارات عالِم”. أي أنها بعيدة تماما عن التنجيم، ولا تعدو أن تكون إنذارات مبنية، حسب ما يقول، على توقعات علمية مبنية أساسا على ما وصل إليه العلم، أو ما يحاول العلماء الوصول إليه عن طريق مجموعة من التجارب والاكتشافات.
اختلط الأخلاقي في مرات كثيرة مع العلمي، خصوصا في مجال استنساخ الخلايا و”جهنم” التي فتحها بين العلماء وبين حماة الاخلاق ورجال الدين. رفض كبير توقعه الدكتور مارتن ريس، وقد وجد نفسه مجبرا على الحديث في الموضوع خصوصا وأنه كان عضوا في البرلمان البريطاني سنة 2003، وهي نفس السنة التي أصدر فيها كتابه. ووصفته مجلات علمية متخصصة في بريطانيا بـ: “المستشرف البعيد عن التنجيم والشعبوية”.
مسار غريب لرجل يقرأ للعالم فنجانه
هذا الرجل من مواليد زمن الحرب العالمية الثانية. فتح عينيه وسط بلد دمره القصف الألماني سنة 1942. بريطانيا التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية، كان عليها أن تدفع الثمن من خلال ملايين الوفيات بالإضافة إلى دمار مدن بأكملها. ينتمي إلى أسرة من البارونات العريقة في خدمة التاج البريطاني. مكانته الاجتماعية ساعدته على إتمام دراسته العليا، ليصبح من أصحاب الكراسي الشرفية في جامعات بريطانية مرموقة، وعلى رأسها كامبريدج وترينيتي. كان رئيسا للجمعية الملكية ما بين سنوات 2005 إلى 2010. خلق اسمه الحدث عندما أصدر كتابه “ساعتنا الأخيرة” وقدم فيه للعالم سيناريوهات قاتلة يمكن أن تؤثر على حياة البشر. ولم يكن يتوقع أحد أن يصدق توقعه بشأن الفيروسات التي ستقيد تحركات البشر في كل بقاع العالم. ورسم نهاية العالم التي قال إنها سوف تكون على أيدي البشر بسبب السباق نحو التسلح والحرب البيولوجية والقنابل الذرية الناسفة للقارات والدول.
هل نحن محظوظون؟
يعتبر مارتن ريس أننا فعلا محظوظون لأننا لا نزال على قيد الحياة. ورد كل الكوارث السابقة التي عرفتها البشرية وأودت بحياة الملايين عبر آلاف السنين، أنها كانت جميعا مرتبطة أساسا بالكوارث الطبيعية. وأن الأمراض الفتاكة التي انتشرت كانت أيضا نتاجا طبيعيا وليس بسبب تدخل بشري. بينما في القرن الماضي، كان الوضع مختلفا، إذ أن أرواح ملايين البشر أزهقت ليس بسبب الزلازل والبراكين والأوبئة أو حتى المجاعات الناتجة عن الجفاف وقساوة المناخ، وإنما من الحروب والقنابل التي تلقى من الطائرات. يقول مضيفا مزيدا من التوضيحات: “أحاق بالنصف الثاني من القرن العشرين تهديد بخطر أسوأ كثيرا من أي مما هدد نوعنا فيما سبق. تهديد حرب نووية شاملة. أمكن حتى الآن تفادي هذا التهديد، ولكنه ظل معلقا فوق رؤوسنا لما يزيد عن أربعين سنة. وقد قال الرئيس كنيدي نفسه أثناء أزمة الصواريخ الكوبية أن احتمال قيام حرب نووية كان يتراوح عند نسبة ما من الواحد إلى الثلاثة أو ما يزيد. وقد ظلت نسبة الخطر تتضايف بالطبع لعدة عقود، وأصبح من الممكن في أي وقت أن تتعثر خطوات القوى العظمى متجهة إلى معركة فاصلة كبرى من خلال ما يحدث من تخبط وسوء تقدير”.
إنها حرب مفتوحة إذن على كل الاحتمالات. قبل سنتين، ظهر صدق كلام العالِم مارتن ريس، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض على أبواب حرب نووية مع كوريا الشمالية لولا أن الأمر انتهى بمصافحة بين الرجلين على الحدود بين الكوريتين. وقد كانت تخوفات كبيرة لدى القوى العالمية من تطور الحرب النفسية بين أمريكا وكوريا الشمالية لهذا السبب.
تهديدات ما بعد حرب الإرهاب
يقصد مارتن ريس هنا الحرب على الإرهاب التي بدأتها الولايات المتحدة الأمريكية في بداية الـ2000 ضد تنظيم القاعدة، مباشرة بعد هجمات الحادي عشر من شتنبر. كان السياق وقتها لا يزال طريا، خصوصا وأن هذا الكتاب صدر سنة 2003، أي أن سياق الحرب على الإرهاب وصوت سقوط برجي التجارة العالمي في نيويورك، كان لا يزال يطن في الأذان. يقول: “أخذت في إنهاء هذا الفصل في ديسمبر 2002، بما يزيد بالكاد على مرور عام منذ هجوم سبتمبر على الولايات المتحدة. هناك خوف مستمر من أن يحدث المزيد من الاعتداءات الوحشية التي ستحفر أياما مأساوية أخرى في ذاكرتنا الجماعية”.
لقد كان الإرهاب عنصرا أيضا من العناصر التي توقع مارتن ريس أن يصل بها العالم إلى ساعته الأخيرة.
تهديدات البشر لكوكب الأرض
هذا الفصل يمكن اعتباره الأهم على الإطلاق. عنوانه واضح لا يحتاج إلى كثير شرح أو تأويل. البشر يهدد سلامة الكوكب. ليس من خلال ارتفاع منسوب التلوث. وإنما أيضا بسبب البحوث العلمية في مجال الذرة، وصناعة أسلحة فتاكة بإمكانها تدمير شكل كوكب الأرض خلال ساعات فقط.
تطرق مارتن ريس إلى مقارنة مُريبة تستحق فعلا التأمل. يقول إن كائنات دقيقة جديدة ظلت توفر الأوكسيجين على كوكب الأرض لما يفوق المليون سنة. لكن خلال المائة سنة الأخيرة دمر الإنسان هذه المنظومة بل وقلص نسبة خلق الأوكسيجين في الأرض، بسبب التلوث الخانق في بعض الدول إن لم نقل أغلبها، بالإضافة إلى تدمير الغابات وانتشار الغازات السامة من عادمات المصانع والتي تقتل موارد خلق الأوكسجين وتقضي على النباتات والكائنات الحية أيضا. الخلاصة: هناك إمكانية كبيرة أن يموت البشر اختناقا بسبب هذا الاختلال.
تساءل مارتن ريس أيضا عن نهاية العلم. واعتبر أن الأمر وارد بسبب الحروب والسباق نحو التسلح. والمثير أنه تساءل عن أهمية المصير البشري بالنسبة لكوكب الأرض، وقال: “هل لمصيرنا أهمية كونية”. ليترك خاتمة كتابه كخلاصة استشرافية سماها: “ما بعد كوكب الأرض”. كما لو أن هذا المُنذر يقول لنا إن هناك فعلا نهاية قادمة، يضيف أن الفلاسفة تطرقوا لها، تماما كما تطرقت لها الأديان. والسؤال هنا هو هل سيساهم فيها الإنسان؟ كل المؤشرات تقول إنه طرف فيها وليس متفرجا فقط.