سؤال بدون جواب.. الخليفة القاتل
خالص جلبي
كاتب و صحفي
في إحصائيات (غاستون بوتول) الفرنسي لفترة تزيد عن 3000 عام من تاريخ البشر، اكتشف أمرا صادماً. أن التاريخ مر بدورات من 13 عاما كانت منها السنوات الـ 12 حربا دموية، وعام واحد للهدنة والسلام والتقاط الأنفاس!
هذه الإحصائية تلتها إحصائية ثانية في مدى القرنين الفائتين ليصل من جديد إلى رؤية تشاؤمية تقول إن الحرب التهمت أكثر من ثمانين مليونا من الشباب، منهم فقط في الحرب العالمية الثانية حوالي خمسين مليونا، وربما قفز العدد في الحرب العالمية الأولى إلى 13 مليونا.
وفي مذبحة رواندا عام 1994م تم قتل 800 ألف إنسان من الهوتو بيد التوتسي، في أسابيع قليلة، وبأسلحة بدائية من الساطور والخنجر والبلطة، بحيث أن كوفي عنان اقترب من حافة البكاء في الأمم المتحدة بعد عشر سنين (2004) يخاطب الضمير الإنساني أن لا تتكرر هذه المأساة أبدا، ومما نقل عن وزيرة خارجية أمريكا أولبرايت أن خمسة آلاف جندي من الأمم المتحدة كان كافيا لحجز هذه البهائم عن الذبح المتبادل، (عفوا لقد أسأنا إلى البهائم فالله يصحح فيقول إن هم إلا كالأنعام ـ ثم يستدرك ـ بل هم أضل).
الأمم المتحدة بدل ذلك فعلت العكس فسحبت القبعات الزرق، كما فعل الجنود الهولنديون من فرق الأمم المتحدة، التي مكنت الصرب من ذبح سبعة آلاف ذكر مسلم بعد أن فصلتهم عن النساء مطبقة الجدل الفرعوني القديم (يذبح الذكور ويستبيح النساء، الآية من سورة المؤمن (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم).
ولكن ما حدث في البوسنة وكوسوفو وفي سوريا من جديد بعد مرور 20 عاما على مذبحة رواندا يكشف الخلل في مراقبة وضبط الجريمة ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية (التي تبرر الحرب العادلة ولكن أوباما شيطان أخرس).
كيف نفهم ما جاء في سورة البقرة أن الله أعلن عن خلق كائن جديد سيكون خليفة الله؟ (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة).
الخليفة يعني أنه مفوض عن الله مثل استخلاف من يدير شركة في حالة غياب الرئيس، ما يسمى في الوقت الحاضر نائب الرئيس، هو كائن خطير جدا. هذا الإعلان للملائكة تبعه حفل تكريم بأن طلب الرحمن منهم السجود لهذا الكائن فهو أفضل منهم.
الإنسان الذي قتل في معارك الفردان والسوم في أوحال الحرب العالمية الأولى في مدى ثلاثة أشهر مليونا ومائتين وخمسة وستين ألف جندي (1265000) بالسونكي والقنابل والرشاشات (Machine Guns) هو خليفة الله في الأرض؟ عجيب كيف نفهم وظيفة هذا الخليفة القاتل المجرم. هل هذا تمثيل فعلي لرحمة الله وكيف نفهمها؟
العراقيون والإيرانيون الذين تطاحنوا حتى العظم، وقتل فقط في إحدى الحملات المجنونة بما عرف بكربلاء 65000 خمسة وستون ألف شاب منهم 45000 خمسة وأربعون ألف إيراني وعشرون ألف عراقي.
هل هذا هو خليفة الله في الأرض أم هو شيطان مريد؟
لقد أدركت الملائكة خفايا هذا الكائن بطريقة ما أنه مفسد وقاتل. فلم ينصب اعتراض الملائكة على الفكر والعقيدة التي يحمل هل كفر أم آمن؟ لقد رأت فيه مظاهر لا توحي بالاطمئنان أبداً وهو ما صدقته أخبار التاريخ.
ما يجري في سوريا مع صيف عام 2015م من إسقاط البراميل المتفجرة فوق رؤوس الناس ورشهم بالغازات السامة مثل الذباب يحكي أمرين خطيرين: تفاهة الإنسان الذي هو مفترض أن يكون خليفة الله، تفاهة من يقتل ومن يقتل.
والثاني سكوت العالم على جرائم بحجم الجبال مثل هيروشيما ولكن بالتقسيط ومثل رواندا ولكن ليس في ثلاثة أسابيع بل ثلاث سنوات، فقد قفز حجم الإصابات ليقترب من الحافة المليونية.
هنا نفهم سر تخوف الملائكة وروعهم من هذا المخلوق السفاح. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.
ليس من جواب واضح بل نصف جواب غامض (إني أعلم ما لا تعلمون) فكيف نفهم هذه الإجابة الضبابية المغلفة بسطوح من مستقبل غامض؟ والمستقبل قال لنا وبشكل إحصائي أن هذا الكائن مجرم بامتياز.
عدة أسئلة تنبثق مع إعلان تكريم هذا الكائن الذي اسمه آدم. كيف عرفت الملائكة أنه مفسد وأنه سيسفك الدم بالقتل؟ هل ثمة نموذج سابق كما كشف لنا علم الأنثروبولوجيا عن نماذج خائبة من الهومونيد (الإنسانيات = مثل نياندرتال ـ روبوست ـ إيركتوس ـ إنسان جاوة ـ إنسان لوسي ـ أرديبيثيكوس راميدوس الذي كشف عنه تيم وايت ـ والإنسان القردي والقزم في إندونيسيا، وأخيرا إنسان تشاد الذي كشف عنه فريق برونيت؟).
هل كانت الملائكة على اطلاع على مصير هذه النماذج؟ وأنها كانت مخيبة للظن دموية مخربة، أم وصلت إلى هذا بمفهوم الضد؛ فطالما كانت الملائكة لا تمارس إلا الفضيلة ولا تنطق لغوا وتأثيما؛ فكل من سيأتي سيكون شيئا آخرا، ويعني خارج الفضيلة والسلام؟
هل هذه دلالات فهم الملائكة لطبيعة هذا الكائن؟ أم أن كل الاستعراض هو رمزي تجريدي كما في المسرحيات، أو قصص الحيوان كما فعل ابن المقفع في كليلة ودمنة، فليس ثمة إنسان تاريخي بل هي قصة موديل جديد في طريقه للتشكل؟
بهذا تكون قصة الخليقة مسرحية تجريدية لعرض ما هو الإنسان؟ وأين كرامته؟ وحجم جريمته؟
لو نظرنا إلى البهيمة والطفل في النشأة الأولى اكتشفنا الفرق واضحا؛ فالعجل ينزل من رحم أمه فيمشي في لحظات لأنه مكتمل النمو. الإنسان ليس كذلك والجسم يحتاج لأكثر من عام حتى يتضاعف الوزن ثلاث مرات، ويكبر الدماغ كفاية بقدر هائل من النورونات (خلايا عصبية) حتى يصل إلى ما يقترب من مائة مليار نورون (بطارية كهربية ـ كيماوية) تستند إلى 300 مليار خلية دبقية، والمهم ليس في الرقم، بل في شبكة التواصل بين المائة مليار خلية عصبية، ذلك أن كل نورون له من السيقان والاتصالات (الأكسون = Axon) ما يصل إلى عشرة آلاف استطالة، وأحيانا تقفز كما في خلايا بوركينج في المخيخ إلى 200 ألف.
هذا ما دفع السيد رصاص في كتابه عن (الدماغ الإنساني) ليقول إن الطاقة هنا تقفز إلى ما فوق الجوجول أي عشرة مرفوعة إلى قوة مائة.
لماذا إذن القتل والجريمة والاحتراب؟ لو تصورنا أن بالكون الذي نعيش ليس ثمة كائنات حية إلا نحن؛ فيمكن تصور خسارة إنسان واحد، لأنه مشروع مجرة.
رسالة الأنبياء كانت ثلاثا: تركيب البوصلة الأخلاقية عند الفرد كي يتحرر من (الأنا = EGO) والتحرر من سيطرة المؤسسة الدينية، والثاني بناء مجتمع العدل، ومنه نتحرر من خرافة فكرة (الخلافة الإسلامية) فلم يأت تحت هذه التسمية إلا مصيبة، كما في فاحش وداعش الحالية. وأخيرا إيقاف حمامات الدم بين البشر بإرساء السلام العالمي.
بكل أسف لم تنفع أي موعظة وفشل الإنجيل بالحروب الصليبية، وتوقف مد القرآن وإشعاع روحه ووقعت مجتمعات الشرق في قبضة مافيات دموية من نموذج كافور الإخشيدي وأحكام قراقوش.
كل فكر يدعو إلى السلام بين الأنام تم إخراسه وما زال. وحين دعت (بيرتا فون سوتنر) التشيكية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى لإيقاف الحرب اعتبروها خائنة فألجموا لسانها بنار وسيف يتقلب.
نصل في نهاية هذا البحث إلى تقرير ثلاثة أمور: أين وصل العالم؟ كيف نفهم نصف الآية من رد الله على الملائكة؟ أين وصل وضع العالم الإسلامي؟
الجواب على هذا جاء من التطور العلمي، فمع تجريب أول سلاح ذري أدرك السياسيون قبل غيرهم أن عصر السحر ولى، وأن القوة انتهت، وأن مؤسسة الحرب ماتت، ولكن لماذا لا يستمرون في هذا السحر، طالما مازال في العالم مغفلون يشترون السلاح؟ والعالم الإسلامي في مجموعه يعيش في عام 1436 ميلادي وليس هجري، حسب الطرح الخلدوني الذي نعى العالم الإسلامي وأن حضارته توقفت.
كنت البارحة أراقب قناة فرنسية (TV5) في عرض لفصول من الحياة السرية لأمور طواها الزمن، جاء فيها ذكر ديجول وكيف أنه لم يحاب ابنه ويقربه، وكيف كان يدفع من جيبه لعشاء ضيوفه في الإليزيه، وكيف كان يحب (العروبية) فيلجأ لها دوما مع أنه الرئيس، وكيف أن الأزمة الجزائرية هي التي أتت به إلى الحكم، بعد أن ودع الحكم وكان يريدها في قبضة رجل عسكري؛ فرفضت روح فرنسا، وهنا أصابني الحزن على الجزائر التي استبدلت الاستعمار الخارجي بالاستبداد الداخلي، كمن بدل السل بالطاعون، والإيدز بالسرطان، كما أدركت عمق الهوة الحضارية بين الغرب والشرق، وأننا مازلنا نعيش أيام السندباد البحري ونشخر مع قصص ألف ليلة وليلة.
في ضوء ما ذكرنا يمكن أن نصل إلى حواف الآية، في جواب الرحمن على تساؤلات الملائكة، فالطفل حين يكون صغيرا لا يعرف تنظيف نفسه فهي مرحلة، قبل أن يصبح سميعا بصيرا فعالا ذا قوة واقتدار وفهم واعتدال.
وكذلك حال الجنس البشري، الذي لم يدخل التاريخ إلا منذ ستة آلاف سنة، ومازال لا يعرف تنظيف قفاه، ولحسن الحظ فإن جيلنا بدأ يدرك تطور التاريخ، أنه في الشمال، فقد توقفت الحرب هناك، ولم يبق مكان توقد فيه وتشتعل إلا في أوساط المغفلين المتخلفين، ويشترك العالم الأول الذي يدرك هذه القضية بانهيار أخلاقي ببيعه للسلاح حين لا يحاول إيقاف الحرب بين هؤلاء المقرودين، ولعله يتفرج.
هنا في هذه المرحلة نعيش على نصف توقعات الملائكة، والأمل في علم الله، بأن يتحول الإنسان إلى كائن يستحق أن تسجد له الملائكة.
العلم أوصل العالم إلى حافة السلم، ولكن ليس كل العالم سلما، بل استقر في الشمال، ريثما يدخل الجنوب ومنه العالم العربي في السلم كافة، حين يدخل التاريخ، لأنه ما زال على عتبة التاريخ لم يدخلها بعد، في استراحة الفقهاء من العصر المملوكي أيام برقوق وسعيد جقمق.