سؤال الشعر هو المعادل الرمزي لسؤال الذات والواقع. مبدئيا، هذا ما تسعى إليه الكتابة الشّعرية في جوهرها لدى الشعراء رشيد نيني ومحمد الصابر ومحمد بوجبيري. لكن المجيء إلى “الشعري” ينبني، هنا، على اشتراطات. جمالية جديدة، وعلى تعاقدات انبناء مغايرة. ذلك أن ما هو “شعري” لا يتأسس على ذريعة الانعكاس أو التماثل (داخل/ خارج الشعر).. بل هو فعل حر لكتابة “تأسيسية”، تذهب بالذات كما الواقع وبالوعي الأدبي والإنساني إلى [مجازات الهوية والآخر الشعري]. كتابة تتمنّع على [النّسق]، مشتبكة بديناميات الانزياح، مسندة بوعي لا يكفّ [يكسر مرايا الحب في ديوان “اعترافات تحت التعذيب” بحث عن اللغة التي لا تقتل الحب]، ولا يكفّ [يجعل من أنطولوجية الكائن في ديوان “يغنون وهم يفكون القمر من شباك الصيد” سؤالا لاغتراب الحقيقة في مرايا المجاز]، وهو ذاته الوعي الشعري [الذي في ديوان “كما لو أن الحياة كانت تصفق” يعيد لغة الكينونة إلى مبتدأ التكوين في صلصال المحو] .
هذه القراءة هي إنصات للحظة الشعرية الراهنة برهان يتجاوز الزعم بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان. قراءة تراهن على إعادة صوت الشاعر إلى مهود أسمائه وانتساباته.
لا تصدق [الشعارات] وتأتي بـ [الحلم] كبينة ادعاء.
محمد علوط
طِرسُ الحب
الأثر الشعري العائد
«اعترافات تحت التعذيب» للشاعر رشيد نيني
محمد علوط
يمتلك الديوان الشعري «اعترافات تحت التعذيب» للمبدع والإعلامي رشيد نيني (1) عدة مداخل للقراءة، وأول هذه المداخل يتعلق بـ(المعمار النصي) الذي يكتسب طبيعة استطيقية خاصة سنعتمد في توصيفها على مرتكزين:
- ـ اعتماد مبدأ «الأثر الشعري» (L’œuvre poétique) بدل نصية الديوان التقليدي الذي يعتمد تجميع مجموعة قصائد معنونة، ومفهرسة في آخر الديوان. وهذه الدينامية هي من الإبدالات الجوهرية التي عرفها الشعر الحديث في نزوعه للاحتفال بـ«مفهوم الكتابة الشعرية) منذ أن نصص رولان بارت على ذلك في مؤلفه: «درجة الصفر في الكتابة». (2)
- ـ اعتماد مبدأ «الأثر العائد»: وهو نهج في الكتابة الشعرية يتحرر من أسلوبية التجزيء التيماتيكي (أي الأغراضية الشعرية) ليصير الأثر الشعري في كليته المعمارية يتوحد في نسق (كتابة عائدة) La réécriture، حيث يلتجئ الشاعر إلى أيقونة ذرائعية (الحب)، لا تكف عبر 41 نصا تشذيريا عن استعادة الصور المرآوية لتمثلات وعينا بالحب، في ظل المحايثة لفاعلية «الأثر العائد»، حيث كل نص تشديري ما أن نجتازه حتى نجد أنفسنا في مشهد كتابة ثانية، ليست ترجيعا لما سبق، بل أرجوحة وأنشوطة محو دائم، يمنح لروح الكتابة الشعرية انتهاكا متجددا للنمطية والجاهزية في التمثلات والوعي، فالأثر العائد (ككتابة ثانية) يأخذ شكل محو الطروس Palin sestes أي أن (الحب) ليس وصفة جاهزة، أو بصيغة مخاتلة من لدنا: «الحب هو الوصفة الوحيدة التي لا تتضمن طريقة الاستعمال».
أما المدخل الثاني، وهو يضارع ويعاضد المدخل السابق، فسنلج بوابته من خلال إحالة مُشَاكلة إلى كتاب الشاعر الألماني ريلكه (رسائل إلى شاعر شاب) (3)، وبالتحديد إلى السياق الذي ينصح فيه ريلكه مراسله بدعوته إلى تجنب قول الشعر في المواضيع الكبرى (ذكر بعضها ومنها (الحب)، وذلك لأنه لن يأتي في هذا الموضوع بأحسن مما سبق إليه غيره من الشعراء الأسلاف، ولأن هذا سيزج به في «ورطة المستهلك»، وجوده في النهاية عالة على تراث غيره، وهي المعضلة الجوهرية التي عالجها فلوبير في مؤلفه (بوفار وبيكوشي) (4) حول النسخ والتناسخ.
أعرف شخصيا عُمق اطلاع رشيد نيني على رسائل ريلكه، مثلما هو معلوم من خلال (سيرته الشعرية) مجيئه المبكر من أدب الهامش والغارات الشعرية والأنساب الاختلافية التي مهرت ديوانه الأول (قصائد فاشلة في الحب) (5). فليس غريبا أن نجده ببصيرة شاحذة يشتغل من داخل نصوصه على (كتابة مضادة) تنأى عن منوال وطبائع أدب الحب في الثقافة الكلاسيكية (كتاب طوق الحمامة لابن حزم مثلا)، وأشعار العذريين (قيس بن الملوح مثلا)، كما يبتعد بمسافة هيرقليطية (إننا لا نستحم في النهر مرتين) عن شعرية الأدب الرومانسي الذي استأثر بموضوع الحب، وبذات النأي يقف بعيدا عن صورة المرأة / المثال الفينوس في شعر علي محمود طه، وعن صورة المرأة / الجسد الأبيقوري في الكثير من شعر نزاز قباني، والأكثر من ذلك لا يعيد إنتاج صورة الحب من خلال رمز المرأة الأدلوجة كما في ديوان «بستان عائشة» لعبد الوهاب البياتي على سبيل المثال.
في منزع الكتابة المضادة عن (الحب) نقرأ من الديوان:
(أعرف أنك ترتدي أقنعة كثيرة
لكنني قادرٌ
على كشف كل وجوهكَ
وأعرف أني سأهزمك
ليس لأنني أقوى منك
بل لأنني أيضا مثلك
بلا قلب)
(ص 62)
(في الحب
لك أن تختار الميتة التي تشاء
لك أن تختار ميتة رومانسية
وتسقط فوق سيفك مثل بروتس
لك أن تختار ميتة إغريقية
وتتجرع السم مثل سقراط
ولك أن تختار ميتة العشاق على مر العصور
أن تحتضر
كلما رأيت وجه المرأة التي تحب
فيكون عطرها حنوطك
وذيل ثوبها كفنك
وقلبها قبرك العميق
الذي ترقد فيه بقية عمرك).
(ص 76)
كشف أقنعة الحب: إوالية تُنتسجُ في هذا العمل الشعري من خلال فاعلية الأثر العائد: لقد كان عنترة (العبد) يتوسل بالحب من أجل مكسب الحرية، كما توسل الحمداني (الأسير) بالحب في قصيدته الشهيرة «أراك عصي الدمع» من أجل مكسب السلطة. قدم الكثير من المبدعين والأدباء الحب (قربانا شعريا) من أجل «ولي فيها مآرب أخرى»، كما ليس الحب بالنسبة لفيرتر (المنتحر) في رواية (آلام فيرتر) لغوته سوى القناع للتعبير عن عشق نرجسي للذات.
تتعدد الأقنعة، ولا مسلك لكشف صور الزيف والأوهام في مراياه الكاذبة سوى اعتمار كتابة شعرية مضادة، كتابة جريحة ونازفة مثل انتزاع (اعترافات تحت التعذيب)، لذا يتحدث الشاعر عن الحب بلغة قاسية وعنيفة وشرسة الحياد تنبذ التواطؤ والخديعة.
يلجأ إلى تقشير ظاهر وسطوح اللغة المؤمثلة من خلال تعرية لما هو راسب في أعماق بحيرة اللغة، والطبقات الجوفية للمعنى الذي يقدم نفسه كثبوت ورسوخ مطلق:
(في الحب
ليس لي سم الأفاعي
الذي كلما خفق قلب الضحية بشدة
كلما عُجل بوصول الموت إليه.
لي خفة الفراشة
التي تعرف
وهي تتنقل بخفة بين الزهور
أن عمرها سبعة أيام فقط)
(ص 80)
في (عيون إلزا) لأراغون، تسود طمأنينة هائلة حين يتحدث الشاعر عن الحب كتحقق لصفاء مطلق، يتغنى بأمجاد الحب وخفق راياته وبنوده، لا تسود أناه الشعري أغيار القلق والشك والتردد. ليس الحب سما قاتلا كما في الإلياذة وأبطالها بمصارعهم التراجيدية حين يسقطون صرعى، في الظاهر ضحايا للحب، وفي أغوار النفس ومخادع الذات هم ضحايا خدائع ومكر الآلهة، وفرائس أوهام البطولة من أجل مجد أثينا أو طروادة، أو فقط الأهواء العمياء.
بنفس هذا الحَذَر (يصفه الشاعر في الصفحة السادسة: كطائر يحلق فوق الفخ / يقيس بجناحيه المسافة / بين حتفه وحبة القمح) يُناوئ الشاعر لكشف النوايا الملتبسة للغة الحب. إن الحب دائما لغة تقول عكس ما تشير إليه، مرآة عاكسة للغير يأت مثل قمر يختبئ فيه وجه ذئب. كل قصائد الغزل عند عمر بن أبي ربيعة كانت تقع في جنح الظلام، أشبه بعقدة فرويدية تترسب في اللاوعي.
لم يحرر نزار قباني المرأة من قيودها، ولكن محرضا نزعة ذكورية تملكية صنع لها قيودا جديدة أشد رسوخا من قيودها القديمة، وبنفس القدرة كل تمثلات نوال السعداوي في رواياتها لاستحالة الحب في مجتمع عشائري تحولت إلى حكم قيمة مفاده (المرأة أسيرة جسدها)، وحكم قيمة بإدانة مفهوم القبيلة، فيما أن الحب هو (نص متعال / حمال أوجه عديدة): إنه مثل الحق، والواجب، والحرية، والعدل… أرحب من التقييد بأي إكراهات من خارج طبيعته تجعله وسيلة لا غاية.
المدخل الثالث يتمثل في بلاغة اللغة الشعرية للديوان، إن الشعراء المنتسبين إلى (قصيدة النثر) عديدون، وهذا لا يعني أنهم على رتيبة واحدة، فلقد أظهر صبحي حديدي في أحد كتبه النقدية «شعريات التعاقد العسير» (6) سلبية المنحى الخاطئ حين رَامَ بعض شعراء قصيدة النثر محاكاة وتقليد الإرساءات الأولى التي نهجها أنسي الحاج، إذا كان من خصيصة جوهرية توسم بها قصيدة النثر، بعيدا عن ترسيمات السيدة برنار سوزان (7)، فهي كونها الفضاء الإبداعي الأرحب لوسم كل شاعر بصمته المتفردة، فشعرية النثر تراهن على الاحتمال لا على التقعيد والتنميط.
نصانية قصيدة النثر في ديوان «اعترافات تحت التعذيب» تتميز باعتمادها (لغة شعرية متراكبة). إنها تربة ذات مغارس عميقة لانكشاف حقول تخييلية تتضوع عطر السجلات التعبيرية المتعددة الأجناسية.
الكل يعرف: كتب رشيد نيني الشعر، وعرفته أثناء اشتغالنا معا بجريدة (العلم) بارعا في ترجمة البيوغرافيات الشعرية والأدبية الغربية، غزير العطاء في ذلك، كتب الخاطرة الأدبية، وكتب العمود الصحفي ونبغ فيه ولا يزال إلى اليوم. كتب اليوميات متجانسة مع أدب الترحل والرحلة في (يوميات مهاجر سري)(7)، وأنجز الحوارات الصحفية والتحقيق الأوتونيوغرافي في عمله التلفزي (نوستالجيا).
منح الأدب المغربي رصيدا مهما من أدب المقالة، وله رواية قريبة الصدور.
في هذا الديوان يضيف إلى كل تلك السجلات التعبيرية (أدب البوح والاعتراف). يثبت العنوان «اعترافات تحت التعذيب» ذلك، وهو عنوان مجازي مخاتل قد يحيلنا إلى محيط (أدب السجون) وتجربة عام قاس من السجن عاشها الشاعر. ثمة من الأدباء من راكموا مجدا أدبيا من خلال كتابة (سيرة السجن). الشاعر هنا لا يحتاج لتسويق آلام تلك التجربة في ديوان شعر. ما يهمه في اعتماد مرتكز لغة البوح الشعري هو الذهاب للقبض على (المعنى الأسير) خلف جدران اللغة المنمطة، اللغة النسق / المعيار، والبحث عما هو «شعري» (le Poétique) في الفكرة المصادرة، والوعي المعتقل في حجوب اليومي و«نظام التفاهة».
لغة البوح الشعري هي ماء النهر في كتابة شعرية تجرف في عبورها مختلف اللغات والخطابات والأجناس الأدبية، تلك القارات التي خَبرها الشاعر، لا على طريقة الكولاج والتنضيد العشوائي، بل باعتماد (مبدأ التشاكل) كما يصفه الدكتور محمد مفتاح في مؤلفه (التشابه والاختلاف) (8). التشاكل الذي وصفناه نحن بمفهوم (اللغة الشعرية المتراكبة). نقرأ من الديوان:
القلبُ نهر عميق
يمر وسط مدينة مهجورة
هناك من يرمي في أعماقه
مفتاح قفل
هناك من يرمي فيه جثة
أو أداة جريمة
وهناك من يسير مثلي بمحاذاته
بحثا عن قنطرة يعبر فوقها
نحو الضفة الأخرى
لعله يجد شجرة وحيدة
يسند ظهره إليها
ويرتاح تحت ظلها بقية عمره (ص 71).
تتجسد جماليات التراكب في جعل لغة البوح الشعري مظهرا لتعددية أجناسية للكتابة:
ـ اعتماد المحكي القصصي.
ـ المرويات الأسطورية حول الأنهار والبحيرات التي تلقى فيها بذور الحب.
ـ أسلبة لغة الرواية البوليسية في مشهد التخلص من جثة أو سلاح جريمة.
ـ الإحالة الواضحة على السيرة الذاتية للشاعر في (يوميات مهاجر سري (الأسطر الستة الأخيرة).
ـ الصوغ المجازي لنمط لغة التحقيق الصحي حول الهجرة السرية، لتصير لغة المجاز تمنحنا الشعور بأننا كلنا مهاجرون في وجود لا يتوقف برفضنا.
تلوينات فسيفسائية بديعة الرونق تمنح لهذه اللغة الشعرية المتراكبة مبصمها الخاص، والتي تتشاكل في تكوينها، كما في باحة الصباغين بالمدن العتيقة، الصوف الخام بدموغ ومهرات الصباغات ذات الأصول النباتية والصخرية والإكسيرية، تلك الصباغات الدالة على تعددية مقامات القول الشعري وعلى تنوع جغرافياته الأجناسية الخطابية.
المدخل الرابع والأخير يخص (الجملة الشعرية وتشكلات عناصرها الجينيالوجية). وهذا المستوى جد هام في مقاربة مفهوم الهوية الشعرية، أشبه ما يكون باستكشاف الحمض النووي للغة الديوان.
في هذا المستوى نتوقف عند حدين:
(أ)ـ اعتماد الشذرة جملة شعرية:
في أغلب تنظيرات النقد الحديث تم النظر إلى الجملة الشعرية من زاوية علاقتها بالنظم الإيقاعي ومستويات الوقفة العروضية والوقفة الدلالية، أو أضافوا إلى ذلك توابل من مبدأ الانزياح كما رسم حدوده جون كوهين في «بنية اللغة الشعرية». (9)
لن نذهب هذا المذهب، وذلك لأن الجملة الشعرية في «اعترافات تحت التعذيب» هي بالأساس (الجملة /الشذرة)، الجملة المكثفة، الحبيسة الأنفاس، والتي تجعل اللغة خفق تنهد وشهقة اندهاش.
(الحب وديعة صغيرة
في بيت مهجور
يقطنه لص
(…)
الحب جملة غامضة
وسط نص واضح
في كتاب نفد من الأسواق.
(…)
الحب ورقة نقدية
تعثر عليها ذات إفلاس
داخل جيب قميص قديم
نسيته في الدولاب)
(ص 51 ـ 56)
جملة شعرية تمتح تكوينها الجينيالوجي السري من روح الأجناس الأدبية النووية (10) مثل المثل والحكمة وبلاغة الأشكال المقتضبة. ومن غور مبدأ التجاور والتساوق والاتساق ينتظم النسق الإيقاعي، وكأن كل (جملة / شذرة) عنصر تفعيلي، يخاطب في الوجدان حساسية النغم، ويخاطب في العقل والفكر مباصر الإدراك.
- ـ الصوغ البلاغي للجملة المتفارقة:
المفارقة Le Paradoxe في كتب البلاغة الأوربية تصنف ضمن دائرة المجاز، ويعتبرها ميشال فونتوبيه (صورة شعرية) (11)، وهي ذات تركيب طباقي، لأنها تنتهك معيار المجاز التشبيهي من خلال إسنادات مفارقة تجعل المعنى الشعري يتخلق من اصطدام للشيء بنقيضه، وهي بذلك تعتبر عند بعض فلاسفة الشعر ابنة شرعية لـ (مبدأ الثلث المرفوع).
لدى رشيد نيني ليس الصوغ البلاغي للجملة المفارقة مجرد زخرف قول أو حلية تنميقية، إنها بقدر ما هي عنصر جينيالوجي لتشكل الجملة الشعرية، ولنسج التخييل الشعري هي بالأساس أحد الدوال الكبرى التي من خلالها يريد الشاعر، أن يُظهر العالم كوجود مفارق، جارح في المفارقة حد السخرية السوداء، إنها التعبير عن عبث الفعل وعدمية الرؤية، حين كل الأشياء لا تبدو في مكانها الطبيعي وحين يصير الخلل يجعل عقارب الحياة تسير بشكل عكسي.
من أمثلة هذا الصوغ البلاغي للجملة المفارقة:
(القلبُ قنديل مضاء
في كوخ بعيد
وسط غابة كثيفة
مثل كوخ ساحرة وحيدة
ولا أثر للأقزام
ولا للأميرة
ولا للتفاحة المسمومة
ولا لأي شيء آخر.)
( 89)
النص استعادة تخييلية من سجل أدب الأطفال، يبتدئ بأفق انتظار ذي طبيعة حلمية، ثمة ضوء قنديلي يتضمن استحضارا تلميحيا خفيا إلى مصباح علاء الدين الذي بموجبه تتحقق الأحلام.
الشاعر بدل ذلك يقتفي أثر الكوخ المهجور والغابة المظلمة وبيت الساحرة. في حركة عكسية مفارقة تنطفئ أضواء الحلم، لا ملائكة ولا شياطين هنا، لا أقزام ولا أميرة. وحده العدمُ هناك يقضم تفاحة مسمومة والمكان جثة بلا حياة.
يشيد الشاعر المفارقة على مبدأ التناقض المطلق بين (الحلم والواقع) في عالم فقد بكارة الطفولة، وفقد سحره الذي يمنح للعدم أسماء الحياة. ثمة حاضر لا يطابق ماضيه، ومستقبل يغترب في المفارقات.
يقدم الديوان رؤية تصحيحية لواقع مُدان، يكتب الشاعر نصه بنفس مأساوي، لكن بيد تمسك بالممحاة لتمحو أثر الخطأ البشري، تلك الممحاة التي هي في الآن صحوة تذكر لاستعادتنا لأمكنة الضوء في مدارج الحلم.
الرؤيا الاغترابية
في ديوان “كما لو أن الحياة كانت تصفق” لمحمد بوجبيري
محمد علوط
الدار البيضاء 2024
من أغوار “رؤيا اغترابية للعالم” تتشيد دوال المعنى في ديوان “كما لو أن الحياة كانت تصفق” للشاعر محمد بوجبيري، وهي رؤيا غسقية الظلال والانكشاف، في المعير البرزخي بين أفول دامس وحلول للضوء في رماد العدم.
وكأن (لا أحد هنا) سوى وجيب الطين في كسرة مبتدأ التكوين، وكأن الوجود (كتاب إليوتي) والدائرة تتمخض بوجع الاكتمال:
لا أحد
إلا أنت
وعراؤك الأثير
لا أحد
إلا أنت
وطينك الممنون
أن تعفى
إلى حين
من استدارة الأرض
ومن فيها
ومن عليها
أن تكون غسقا يضيء)
ص:26
بلغة شعرية، مرتهنة إلى نشيد البوح يعتكف الشاعر على كتابة (سيرة الذات)، لا يقرع طبول الحلبة ولا ينشب في اللغة شوك الملاحم الهادرة الوقع. يذهب باللغة إلى البعيد البعيد من النسيان لينحتَ إلى بكارة صوته الحميمي، لا يؤرشف لكينونته بخفق الأعلام ومجد الكراسي، بل بسهو الخرائط، وتواري العتمة في جسد المرايا، ورفات الماء في جسد صحراء السراب:
مرة سأل الحبرُ:
إلى متى أيها اليراع؟
إلى متى هذا الإصرار على تسويد البياض؟
تعبت من حروفها الكلمات
تعبت المعنى
وانهار سقف المجاز
أجاب اليراعُ:
لا عليك أيها الحبر الأمين
ألا تعلم أن الإقامة في الحياة
إن هي إلا تدوين لأثر العابر
وأنك الشاهد الوحيد على الذي كان وما سيبقى؟)
يتوسل الشاعر بلغة ميتا شعرية لصوغ حوار شفيف مع الذات. لغة الديوان برمتها هي عبارة عن مونولوج ميتا شعري يتوهج فيه جمر الاستبطان، حيث مرايا الاستبطان لها وقع سقوط النيازك على صخرة وعي ذاتي مثقل وبخسارات الوجود. وعي قلق و”متمرد يقايض فداحة الواقع وانهيارات اليومي. يقايض الفكرة الجاهزة بحدوس الرؤيا والحلم، ينزع عن ثابت اليقين ويقين الثابت قشرته الصماء بمعول الشعر الذي ينسخ (دفاتر العبور)، كما في قصيدته المعنونة “يصر ولا يلتفت” أو قصيدته الحاملة لعنوان الديوان “كما لو أن الحياة كانت تصفق”.
لنفرض سمح الزمن
أو سميه ما شئت
بالعودة إلى نقطة البداية
ووجدت نفسك في أول الطريق
قدم سليمة من أي خدش في حذاء جديد
وعلى طريق بكر ما يكفي من النوايا البريئة
تأكد.
بذات الأخطاء ستبدأ
وجدلان ستمشي على إيقاع مهاوي الريح
والحافات
مرة أخرى
وبكل العثرات
ستعبر العالم).
ينتمي الشاعر محمد بوجبيري إلى جيل (المرحلة الرمادية)، الجيل الذي لم تثقل كاهله “ملاحم التأسيس” بتعبير المجاطي في ديوانه (الفروسية)، جيل “ما بعد الجلبة” بتعبير ديوان لعبد الكريم الطبال.
الذات هي موئل الكتابة الشعرية ومنعقد تشابكاتها في هذا الديوان، إنها ليست “ذاتا أو توبيوغرافية” بالمعنى الحصري، ولكن هناك نزوع إلى تخييل شعري للذات بخرائطية تشذيرية تصب العناصر السيرية في نسج المجاز وأسطرة صور الموت والميلاد في طقس احتفالي برمزيات العبور.
تُحافي هذه اللغة الشعرية، ذات الأسلبات الترميزية، مسكوكات وثوقية لغة السيرة الذاتية المعيارية، بدل الحدث الواقعي بكامل حمولته المرجعية:
يحل (الأثر): كأنه صدى أو ترجيع للواقع والتاريخ والمكان، كأنه ندبة في جسد اللغة ترسم ما ينشب عن ارتطام الذات بالزمن المعيش، كأنه شظية رصاصة تخلفت في مكان غادرته الحروب من “أيام وأنساب” الشعراء.
أعرف الشاعر محمد بوجبيري جيدا، لأني صاحبته طويلا، إنه قارئ فسيح المهاد في الاطلاع على متون الشعر العربي والغربي على حد سواء، القديم منه والحديث.
لكنه، وقت الكتابة يأتي إلى القصيدة (عاريا إلا من طين جبلته الأولى)، ينحت من قصب وردة الرياح الأربعة مزامير قصيدته، متوجسا القرع في طبول الآخرين، يصعد إلى الجبل يتلقى ألواحه، هناك حيث الصمت (لا التناص) روح “اللغة العليا” بتعبير جون كوهين، ثم ينزل إلى سفوح اللغة، حيث البحيرات تحرضه على التأمل الداخلي بإصغاء عرفاني لعناصر الكون، وحيث النهر يحمله من أعالي نبع الذات إلى المصبات الشعرية الهادرة بأسماء الكينونة.
إذا كان وصف الحساسية الشعرية الجديدة هو الخروج عن النسق والمعيار، فإن أبرز الخصيصات المميزة للكتابة الشعرية في دواوين الشاعر: “عاريا أحضنك أيها الطين” و”لن أوبخ أخطائي” و”كما لو أن الحياة كانت تصفق” هي أنها تجسيد رمزي لهذا النزوع، ذلك أنه يؤثر أن يكتب قصيدته كـ (مرج البحرين)، حيث ماء الشعر وماء النثر يلتقيان، وبينهما برزخ من الشفافية، تارة يتحول فيه الشعري إلى إناء والنثري إلى وعاء، وتارة تغدو القصيدة وردة والترصيع السردي الحكائي مزهرية. وتارة تسلم القصيدة روحها إلى دفق الوجدان الغنائي كمد بلا جزر، وتارة أخرى تتكسر أوتار القصيدة بالظهور المباغت لـ “الشذرة الشعرية” تجعل أبدية اللامنتهى أسيرة قمقم اللحظة: (أليس البحر في النهاية مجرد موجة ! ).
أستنبت السنبلة
كما القصيدة
أكتب
وأمحو
أتشظى
ولا أتبدد
(…)
السر في البذرة
والفاكهة نكهة عابرة)
شعر لا يُقرأ بمقولات الأغراض، بل بشعرية (فيزياء الارتباك)، حيث بلغة ج. ب. ريشار في (الشعر والأعماق) تنبت الفكرة كوردة في سماء اللاوعي، تتشرنق دالية القصيدة في قاع كأس، وعلى أثر الهيرمينوطيقا الباشلارية تتناسل مجازات الداخل والخارج في فضاء شعري، يصير فيه (الحذاء) مسكنا، و(الطريق) قيامة، كما في قصيدة (وهم الطريق)، وتصير فيه (الريح) ذاكرة و(الفصول) مواطن حنين الغجر، أو خطى الغريب، كما في قصيدة (أعطاب).
مثل اللبلاب، ثمة جدار يتسلقه الغياب، كما (الأوديب) خلف الأسوار وخارج الأبواب، يقرأ الشاعر وضوح المعنى بعماء اليقين، لم تعد القصيدة موضوعا أو مناسبة في روزمانة الزمن المشاع، بل فحسب مجرد (نداء) يأتي ليبدد أوهام المألوف.. أشبه بدهشة تستيقظ لتوها من رفات المعاجم ومن توابيت الكلمة المحنطة:
(دفعة واحدة
استيقظ كل الذي كان قبل المجيء
ومن سرابه
اندس كثيب نسفته رياح اليقظات
استعاد الوعي سماء
ما قط عبرت صفاءها الغربان)
ص:105
على الرغم من زخم تلوينات الدفق الشعوري للغة الديوان، فإن الجملة الشعرية في قصائد محمد بوجبيري يستبق فيها الفكر الإحساس.
يعود ذلك بدرجة أولى إلى ميل الشاعر نحو (إيقاع الجملة الاسمية) المحمولة على السرد الحدثي.
لكن هذه البلاغة الإجبارية ليست محمولة على وجه التقرير، إذ سرعان ما يتكسر ضلع هذه اللغة منجرحا بدماء الجمل الفعلية، دافئة الدفق الوجداني بحساسية المجاز وإشراقات شموس الاستعارات، تنضفر رمزياتها بشطح المعنى المنسكب من محبرة عناصر الكوسموس الكوني: الماء، الريح، التراب والنار.
ينتسج من هذا متخيل شعري مفارق، يصطدم من خلاله واقع مرجعي بواقع تخييلي مجازي، الأول واسع موقوف التنفيذ، والثاني أشبه بعتبة تراجيدية تعري على عبثية الأول، أشبه بعملية لمحو الظلال الرمادية لوثوقية عالم يبابي تلبس فيه الحقيقة ثوب السراب.
المجاز التخييلي في ديوان “كما لو أن الحياة كانت تصفق” مطبوع بنزوع عارم لدى الشاعر إلى جعل بناء الصورة الشعرية “ينصب في قالب (اللوحة المشهدية)، التي تؤاخي بين التصوير البصري والتأمل الاستبطاني، وفق حبك شعري يتمفصل فيه البعد التشخيصي بالبعد التجريدي كما في الصوغ التالي من قصيدة (ظهيرة):
ظهيرة
بالذات في تلك الظهيرة
رأيت الخراب تاما:
سيدة رأيت
فارهة التفاصيل
وكحمى
بخفين من حرير سارت
وأرعشت الرصيف
في تلك الظهيرة
أيضا
عبر أعمى:
كاد يمشي بصيرته
أوغل في البهم
وسرى من غير قدمين)
ص:100
التصوير البصري، المشهدي، التشخيصي حاضر بقوة، الظهيرة، كما وصفها بودلير شعريا (هي عنوسة النهار)، لذلك يماثل الشاعر بين الظهيرة والخراب، وهو تشبيه تجريدي، ويدس في إطار اللوحة المشهدية للخراب حضور الأنثى بكل حمولتها الإغوائية والاستيهامية، خالقا بذلك تطابقا بين رمزية الموت والميلاد. تنهض الصورة الشعرية المشهدية على (بلاغة الطباق) في زمن العماء، حيث لا يكف العبث عن جعل المفارقات الساخرة تسود الوعي والواقع.
الرؤيا الاغترابية في الكتابة الشعرية لدى محمد بوجبيري، إن كان قد قابلها بالصفح والغفران في ديوانه “لن أوبخ أخطائي”، فإنه في هذا الديوان يجعل منها مشبك فلسفة وجودية حول ماهية (الخطيئة الإنسانية)، هذا ما تؤكده القصيدة الأخيرة من الديوان “أيقونات” التي تجاور المنحى الشعري الجبراني (نسبة إلى جبران خليل جبران).
إن اختياره رموزا مثل “السنبلة” و”الحقل” و “الغابة” و”النهر” و”الأرض” و “الغيمة” و”الحبر” و”الجبل” و “الشجرة” كأقنعة وكمجازات غيرها لحلول الأنا الشعري في عناصر الطبيعة ليست سوى تشييدات لخطاب بلاغي حقوله الدلالية المجازية ذات نواة مركزية، وهي (الإيمان بالرؤيا الشعرية كمعبر وجودي من أجل الذهاب إلى لقاء الأنا الجوهري للذات في ما وراء النفي والاستحالة، في ما وراء الانهيارات والانكسارات).
“كما لو أن الحياة كانت تصفق” عنوان شعري أخاذ يضمر تشبيها يمنح الحياة أجنحة تصفق لكي تحلق. تورية بلاغية لاستعادة الرمزية المؤسطرة لطائر السيمرغ رمز الاكتمال، ولطائر الفينيق والعنقاء رمز الولادة المتجددة.
إنها في النهاية إصغاء دائم لنداء (أول طين).
مَدَارجُ اللغة وحَواشِي المعنى
في ديوان «يغنون وهم يفكون القمر من شباك الصيد» لمحمد الصابر
محمد علوط
تنطوي الكتابة الشعرية لدى محمد الصابر في ديوانه الأخير «يغنون وهم يفكون القمر من شباك الصيد» (1) على بوصلة سرية، هي نواة الفعل الشعري والعمق الصميمي لترميزاته الدلالية، وتتحدد هذه النواة في مرتكزين لا غنى عنهما لقراءة هذه التجربة، وهما تحديدا:
أـ سؤال الكتابة.
ب- سؤال الكينونة.
ينطبق هذا على مختلف أعماله، وتخصيصا «ولع بالأرض» بجزئيه الأول والثاني، و«وحدي أخمش العتمة»، و«الجبل ليس عقلانيا» و«لا كالوميض لا كحطام الضوء» (2)، وهي كلها أعمال تقع في خرائط المدارات التي تستنفر حواس التلقي بانصهار الفعل الشعري في عُمق تفكير جمالي وفلسفي، يمكن بلغة هايدغرية أن نصفه بـ«الوجود بالشعر»، حيث تتجلى مسالك التواشجات الجوهرية بين (الشعر) و(الذاكرة).
هذا، يتطلب بالفعل قارئا استثنائيا، لأننا بصدد كتابة شعرية تفصم العرى مع «الدوكسا» مجال طمأنينة الرأي السائد، وتراهن على مبدأ المحايثة L’Iminense، إذ إن قارئها هو موضوع (انكتاب نصي)، تتخلق هويته بشكل مصاحب لفعل الكتابة. وهذا ما سنحاول تبيانه حسب الإمكان.
1ـ سؤال الكتابة:
بالنسبة إلى محمد الصابر، ما هو شعري هو فعل قيد السيرورة (Un acte en devenir): إنه لقاء على حافة الكلام بين هتاف الأسلاف والنداء الذي يأتي من المستقبل، لا باعتباره نسخا لذاكرة شعرية جاهزة، ولا باعتباره من إملاءات الضرورة التي تستبع المنطق الاستدلالي.
قد يبدو هذا غريبا من شاعر يمارس مهنة المحاماة، الحليف الشرعي للأداة المنطقية، لكن في الشعر ثمة معادلات غير أوقليدية، لأن (قراءة الوجود بالشعر) تستدعي الحلم والحدس والتنبؤ وإرباكات الحقول المغناطيسية للذاكرة والاستيهامات التي تأوي الأزمنة والأمكنة في مباطن المجاز، جاعلة الرمز يحل في العالم وفي الذات متحدثا بلغة العرافين والمنجمين والسحرة والمجانين، وبلغة العناصر الكونية حين يمنحها الشاعر (أسماء جديدة).
نقرأ من قصيدة (فجر يستوطن الذاكرة):
(ما أن أصبح مكان الذاكرة فارغا
حتى اتسعت مخيلة الورق
صارت كثلة اندفعت
حتى ارتطمت بالعمى، حتى كان ضجيج
مفحم ضجيج أشبه ما يكون بضجيج الرفوف
وهي تندفع صوبي بمصنفاتها
وبأنفاس الشعراء والفلكيين والمؤرخين
الآن كبدي بين فكي
وأنفاسي في قبضتي
أهبط السلم الحجري
في كل شيء مهمل
نور ملائكي
لا أمس لا غد، فقط ورقة تتلوى
وتسقط في الرماد.
(ص 34 ـ 35)
تستعيد هذه القصيدة ذات الرؤى المتاخمة وهي تتأول فعل الكتابة بـ(نفس ملحمي جنائزي)
و(ابتهالات لغة طقوسية)، نفس الكون الشعري في قصيدة «نحب أن نتذكر الليل» وقصيدة «النفس الملحمي» في مشهد احتفالي للصيادين/ الشعراء يغنون وهم يفكون القمر من شباك الصيد، الشعراء الذين:
(ذلك أننا لم نعد بحاجة
إلى قمر ميت
في قعر النهر
لنكتب قصائدنا).
(ص 15)
لم تعد الملاحم تقع خارج الشعر، بل داخله في التخييل الكينوني/ الجواني لمدارج اللغة (الآن كبدي بين فكي/ وأنفاسي في قبضتي/ أهبط السلم الحجري).
يتحرر وعي الشاعر من ثقل رفوف الذاكرة، يصير ورقة منزوعة من حشد المصنفات المرتبة لـ(تسقط في الرماد)، رماد حرائق المعنى الذي يعيد تسميد أرض الوعي بتخلق جديد، وهو ما تعبر عنه الأمثولة المجازية كاستغناء القصيدة عن ضوء قمر ميت في قاع النهر الشعري.
الفجر، الذاكرة، الفراغ، مخيلة الورق، النزول العميق لمدارج اللغة، واستكشاف الغور المنجمي لمفاحم الكلام المسكوك رحم النهر الذي يستعيد رمزيته الإخصابية، بعد أن نستأصل منه قمرا ميتا. (3)
الشعر العظيم هو دائما شعر ملحمي، كما يقول خورخي بورخيس في تلميح إلى شعر سان جون بيرس (4). ملحمي لأنه نداء لانصهار كوني بين الأنا الشعري والوجود الجمعي، وهو بعد ملحمي مؤسطر، تنعقد من خلاله الترميزات الأسطورية بمحايثة اللغة الشعرية لأزمنة البدايات والتأسيس كما يوضح ذلك سعيد الغانمي في كتابة «………….» (4) وهو أيضا ما نتبصره في قصيدة «رواق» للشاعر:
من أي جهة سيأتي الخريف
بأغانيه
ليشفي الصيف المريض
في قصائدنا؟
ليشفي الكلمات المصابة بالعمى؟
أي نسيم يوقظ الفجر؟ ورائحة العشب
الميت المحبوسة في ذاكرتنا؟
من يحولها إلى رنين الأجراس
يصحبنا، ونحن نواصل المشي
إلى أن نعثر على أرض جديدة
فيها مساكن الأسلاف
مهجورة ومكدرة
وفيها بقايا أصواتهم المجففة فوق السطوح.
(ص 68)
إلى جانب النفس الملحمي في الديوان وترميزاته الأسطورية تتميز اللغة الشعرية، باعتمادها إيقاعا تراتيليا وإنشادا طقسيا دأب محمد الصابر على استثمار رمزيته الهائلة الوقع منذ الجزء الأول من «ولع بالأرض» (5). قراءاتي في الشعر الغربي تسمح لي بذكر ثلاثة أسماء: هولدرلين وس.ج. بيرس ولوتريامون.. هؤلاء انطبعت لغتهم بألوان متغايرة من الإنشاد التراتيلي، هايدرغر ربط هذا الإيقاع التراتيلي بالتعبير عن رؤيا نوستالجية للعالم. تضع الشعر والوجود كما لو أنه (حنين مطلق وكوني)، وفي هذا تأثير لفلسفة الشعر عند الرومنطيقيين الألمان (6)، حيث (كتابةـ قراءة الوجود بالشعر) هي دائما توق حنيني للمطلق واللامتناهي ولأزمنة الطفولة والبدء والتأسيس.
2 ـ سؤال الكينونة:
وهو، في الآن ذاته، سؤال شعري وأنطولوجي.
لقد كان الإشكال المعيق في الاتجاه الكلاسيكي هو (انتقاء الذات في تطابق الشكل). لم يكن السؤال الكينوني يقلق خيال شاعر مثل البارودي (وهو في زمن نهضوي)، لذا سقط في شرك المعارضة والتطابق بإلباس قصيدته أثواب المجاز من بلاغة تضع (مبدأ التسمية) (7) كاستعادة دائمة لـ(لوغوس الأب). ليس الشكل سوى صورة لوعي قائم يؤكد جورج لوكاش، وهو يحاول شق جدار في نسق الإستطيقا الهيجلية. (8)
الذهاب نحو كينونة شعرية مُغايرة يتمفصل بتلك الفاعلية التخييلية المرتهنة إلى قلق السؤال الدائب السؤال الممهور بـ«قطائع الاختلاف» كما يعبر عن ذلك موريس بلانشو (9). السؤال الذي يحل اللغة في جسد الكارثة، يتغذى باللغة الأخرى النابعة من الصمت والنسيان، من اللامتعين الذي يسكن شقوق المجاز، وتصدعات المعنى بارتدادات هوامشه وحواشيه، هناك حيث ما لم يتم قوله يشبه رغبة منسية، وعطشا غير قابل للارتواء، وغيابا مكلوما بجراحات الحضور الذي يبدد المعنى في المألوف والمعتاد.
نتلمس مسالك هذا المنحى القلق في الديوان من خلال القصيدة سابقة الذكر «رواق»:
(تعبنا من قول العالم
نحب أن يقولنا العالم بلغته الفصيحة التي يقول بها الحروب والأوبئة والاحتباس الحراري لأجل هذا
سننتظر الشاعر الخزاف
ليعجن الطين بالنور
ليطعم الماعز المحفور على خزانة الجدة
ليوقظ الحصان الذي تدحرج مغمى عليه كالمساء
أو كسحابة تضرب بزعانفها الأرض.
الشاعر الذي سيكتب الكلمة الأولى:
التي فيها هنود حمر، حفاة، يسابقون الركض، والطبول
الكلمة التي فيها شيوخ يتشاورون حول السفينة التي تهرب السلام إلى المقابر الجماعية.
عندها فقط
نهب ذاكرتنا لأطفال المزارعين
ليعجنوها طوال الشتاء بأيديهم التي كالمشمش
وليصنعوا منها أشكالا خرافية حيث الزمن كثلة حجمية
أو مكتبة شاهقة
فيها مصنفات عواطفنا
فيها سلال القصب التي فيها أحلامنا
فيها مجلدات الظنون وسجلات الشك
طفولتنا، الكلمات الأولى، الكلمات المؤجلة).
(ص 70 ـ 71)
المجاز هو حبر كتابة (كينونة مؤجلة)، وهو ليس مجاز بلاغة المحاكاة: «تعبنا من قول العالم/ نحب أن يقولنا العالم». فباستثناء صورة الخزاف الذي يعجن الطين بالنور، والمستوحاة من أسطورة النشأة والتكوين، وهي صورة شعرية ترنسنتدالية عاكسة لتمظهر قوى الحياة التي تواجه نزوعات الموت والعدم والخراب، بحسب تعبير رونيه جيرار (10) فإن باقي مجازات الديوان تدفع بالانزياح إلى حده الأقصى. لم تعد وظيفة الصورة الشعرية، تلك اللغة التي تأسر العالم في منظومة الخيال التشبيهي، بإخضاع الاستعارة إلى استبدال المماثلة:
ـ «الحصان الذي تدحرج مغمى عليه كالمساء».
ـ «أو كسحابة تضرب بزعانفها الأرض».
ـ «حيث الزمن مكتبة شاهقة».
ـ «سلال القصب التي فيها أحلامنا».
ـ «مجلدات الظنون وسجلات الشك».
يضع الشاعر مشهد الذات، والواقع، والوجود في (المكان /الآخر)، هناك حيث من هوامش المعنى، وهوامش الذاكرة يرسم المجاز مشهد كينونة شعرية تمارس قلبا أنطولوجيا على مواضعات وأعراف فكر ووعي كائد. في تلك الهوامش التي تستعيد نسيانات الذاكرة. صوتها وآثارها وعلاماتها الأسيرة والمعتقلة، هناك حيثُ يمكن للوجود الشعري أن يلتقي بالعالم والكينونة في قلب اللغة، كما لو أن ذلك يحدث لأول مرة: يقول هايدغر: «اللغة هي التي تتحدث وليس الإنسان، والإنسان يتحدث فقط عندما يلبي قدرية اللغة، وهذه التلبية هي طريقة أصيلة ينتمي فيها الإنسان لنور الوجود، لأنه ينشئ الوجود الأصيل للشيء باللغة من حيث هي إظهار له، ولا تكون اللغة بيتا للوجود، إلا لأنها تعبير عن هذا الامتلاك المتبادل بين الوجود والإنسان، والذي يمتلك فيه كل منهما الآخر، وعلى أساس هذا الامتلاك أو سكن الوجود فينا وإقامتنا في الوجود يتسنى للموجود الإنساني أن يظهر وأن يوجد عبر اللغة».
يضع سؤال الكينونة الوعي الشعري السائد في موضع حرج، إذ يربكه بإحلال العالم في قلب المجاز الذي لم تعد وظيفته التمثيل La représentation (12)، وحيث الانزياح لم يعد صنعة بيانية، أو خرقا أسلوبيا في سياق التلقي (كما هو الحال في مفهومية جون كوهين)، بل هو انزياح في الوعي الكينوني الذي يشيد من الخيال والمتخيل، والأحلام والحدس والاستيهام واللعب مشهدا برزخيا لصورة عالم ينهار وآخر ينشأ مكانه، ويدفع بالشعر إلى صلب الفكر ويجعل الفكر فعلا شعريا، كما هو ذلك النزوع في شعر هولدرلين:
(حدث هذا
لأن المستقبل المتعدد
يقيم هنا
في الضفة الوحشية لمخيلتنا
بينما نحن نتقدم صوبه
كما لو كان هناك
كما لو لم يكن ظلنا
الذي مثلنا
يمشي وعلى ظهره فؤوس ومطارق
وضحكات مغلفة بالثلج
لتحافظ على طراوتها
لأجل هذا
كل أغصان صراخي
سأحطمها
سيكون لي حطب وفير
أدفئ به أصابعي، وضحكاتي
لأقبض على الخريف الميت
الذي خرج ولم يعد
منذ قليل
منذ قليل فقط).
(ص 77 ـ 78).