شوف تشوف

الرأيالرئيسية

سأعود بعد قليل

في الوقت الذي وقف العالم مرتبكا في مواجهة عدو مجهول سنة 2020، رفع بعض الظرفاء المشككين في مصداقية الفيروس الغامض شعارا طريفا لكنه يحمل دلالة عميقة.. حيث انتشرت صورة لمجموعة من المعارضين لقرار الحجر الصحي، تقول: «أنا أكره هذه الحلقة من المرآة السوداء»، في إشارة ضمنية إلى المسلسل النتفليكسي الشهير الذي يحمل العنوان نفسه.

في هذا السياق جاءت إحدى حلقات المسلسل بعنوان «سأعود بعد قليل»، لتعالج قصة إنسانية تحكي الألم المرعب الذي يسببه فراق الأحبة. غير أن الطرح الدرامي لمعضلة الموت والفقد كان مختلفا تماما عما تعودنا عليه في أعمال فنية سابقة. تدخل البطلة في دوامة مريرة من المشاعر السلبية بعد وفاة زوجها الشاب في حادث سير مروع، لتهتدي، بعد فترة حداد كئيبة، إلى برنامج ذكاء اصطناعي يعمل على تجميع كل المحتويات الرقمية للشخص المتوفى، من منشورات على «الفيسبوك»، و«التويتر» و«الريديت»، أو فيديوهات على «اليوتيوب» و«الانستغرام» إلخ.. ثم يعيد البرنامج تدوير وصياغة هذا الأرشيف الرقمي، ليصنع منه «آفاتار» على هيئة إنسان افتراضي، حتى يتمكن أهله وأصدقاؤه من التواصل معه.

تجد الأرملة الشابة في هذا التطبيق المريب وسيلة مثلى للفرار من الحزن ولوعة الفراق، لتقضي معظم وقتها في الحديث مع شبح الزوج المتوفى. تتسارع وتيرة الأحداث بشكل مخيف، حيث تقوم الأرملة بالاستعانة بنسخة مطورة من برنامج الذكاء الاصطناعي لـ«بث الروح» في «الأفاتار» ليتحول إلى كائن بشري من لحم ودم. سبرت هذه الحلقة من المرآة السوداء أغوار أكثر المشاعر الإنسانية تعقيدا، إذ طالما شكلت المواجهة مع الموت تحديا عاطفيا يتطلب الكثير من الشجاعة. غير أن العديد منا يفشل في تقبل فاجعة فقدان الأحبة، لينزلق في غياهب الكآبة والحزن. فهل نلجأ مستقبلا إلى تطبيقات تبعث الحياة في الجثث المتحللة؟

قد تبدو هذه الفكرة ضربا من الخيال، لكن حين نرى، مثلا، تقنية «الهولوغرام»، وهي خاصية تصميم الصور المجسمة ثلاثية الأبعاد، وسبق لها أن «أحيت» شخصيات من الماضي، كالمطربة أم كلثوم التي قدمت في السنوات الأخيرة سهرات فنية على مسارح القاهرة ودبي وعمان، أو الخطاب الذي وجهه الراحل الشيخ زايد للمشاركين في قمة المناخ (كوب 28)، وغيرهما من المشاهير الذين غادروا الحياة منذ عقود..، لا نملك إلا أن نتوجس ريبة من هذه التقنية العجيبة.

تحاكي تقنية «الهولوغرام» المبدأ الذي تطرقت له المرآة السوداء. صحيح أن تصميم مجسمات 3D بخاصية الصوت يظل إنجازا بدائيا مقارنة مع ما تقدمه أفلام ومسلسلات «هوليوود»، لكن يمكن اعتبار «الهولوغرام»، مثلا، خطوة الألف ميل نحو عالم ستبسط فيه التكنولوجيا المتطورة سيطرتها على البشر.

في الأسابيع الماضية انتشرت مقاطع فيديو مريبة، يطلب فيها الناس من الذكاء الاصطناعي تصميم الجنة أو الجحيم أو بعض الشخصيات الدينية المقدسة.. حيث قام أحد البرامج الذكية بتصوير الجنة على هيئة حدائق غناء، تزين جنباتها الأنهار العذبة وتؤثث فضاءها الرحب أفرشة حريرية وذهبية براقة. يعكس هذا التصور الحرفي، لما يجب أن تكون عليه الجنة، رغبة الإنسان الأزلية في الخلاص من رعب العالم والالتحاق بمكان يسوده الأمن والسلام والاستقرار الروحي.

يجوز لنا القول إن تقنيات الذكاء الاصطناعي بدأت تتسلل لكل مناحي الحياة البشرية. إذ نواجه اليوم، مثلا، معضلة «البلاجيا» في شكلها المتحور، حيث يلجأ العديد من طلبة الدكتوراه والماجستير إلى تحرير أوراقهم البحثية بالاستعانة بتقنية «شات جي بي تي». وهو الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام حول مدى مصداقية البحث العلمي المعاصر.

تطول خطورة الذكاء الرقمي مجالات حساسة، مثل فبركة الصور الشخصية أو إنتاج مقاطع فيديو مزورة بغرض ابتزاز الأشخاص أو المؤسسات أو الإساءة إلى سمعة دول بعينها. وما فضيحة «سناب شات» الأخيرة إلا أسوأ مثال على ذلك. يجب التنويه أننا لا نتسول مبررات أخلاقية لشباب بالغين يمارسون حريتهم الفردية بالطريقة التي يرونها مناسبة لمبادئهم، لكننا نتساءل عن السر وراء تهاون الجهات المسؤولة عن محاسبة الأشخاص المتورطين في التشهير بالعباد.

بينما يقف العالم متحمسا لموسم الانتخابات الأمريكية الساخن، قامت الشركات الكبرى الرائدة في عالم التكنولوجيا، مثل «ميتا»، «مايكروسوفت» و«أدوبي»، بتوقيع معاهدة تنص على عدم استخدام أي من هذه الشركات لتقنيات الذكاء الاصطناعي بغرض التأثير على مجريات ونتائج انتخابات نوفمبر 2024.. حيث تم توقيع فصول هذه المعاهدة، الأسبوع الماضي، في مؤتمر ميونيخ للأمن. إذ يبدو أن الرغبة في كبح جماح الفبركة الرقمية جاءت بعد ترويج مقطع صوتي مزور للرئيس الأمريكي جو بايدن يدعو فيه المواطنين إلى البقاء في منازلهم خلال الانتخابات الأولية في ولاية نيوهامبشر يناير الماضي.

فهل نحن فعلا على مشارف عصر تكنولوجي جديد ستسيطر فيه الآلة الذكية على غباء الإنسان؟ وهل من المعقول أن تؤثر صور أو مقاطع فيديو على القناعات السياسية والدينية للناخبين؟ وهل سنستطيع في المستقبل القريب أن نتواصل مع موتانا دون الحاجة إلى استخدام لوحة «الويجا»؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى