شوف تشوف

الرأي

زهرة الليزانيس

رحلت تاركة المدينة بمعالمها الحزينة وهي تحاول عبثا أن تجعلني أبقى، لكن لا إرادة لنا معا أمام إرادة الرحيل، شهوده أقوى من حواسي. تلتهم الحافلة الطريق وذهني مشتت بين طرق الحب المنعرجة، فجدتي ستفارق الحياة وليس هناك أمل إذا استودعتها المقابر أن أراها من جديد، لكن معه يوجد أمل وسأبقى أقتات على ذلك الأمل.
بعد الرحيل لم أرحل إلى مكان بقيت حيث تقام الجنائز ويبكى الأحبة. لم أبكك بقدر ما بكيتها، لم أتذكرك كما تذكرتها.. حينها كان حبك أشبه ببذرة لم تكتمل لتنبت وتعيش عمرا قصيرا لتعلن الرحيل ثم الانبعاث من جديد، تشبه كثيرا بقلبي زهرة: الليزانيس، تلك التي تشكل أسطورة الرحيل والهجران. فقدرك الرحيل، كما أخبرتني يوما، تولد في وطن وتعيش في وطن وتموت في وطن، ليعلم الكل من تكون. غير أني أغرب منك أصبحت أتمنى لو أتحول من عاشقة لوردة بقصائدك المنثورة دررا على لوحات التاريخ، يا رجل الخيال والواقع، يا رجل الحرب والهوى، كيف لسهامك أن أصابتني وغيرت قدر البساطة في حياتي، لأغتال في ما بعد نفسي بين دروب الحياة، فلا يحق لي أن ألاحقك لأن الأضواء تحول بيننا معا.. هوة من الثقب الفضائية التي تبتلع ربيع حياتنا كي لا تسعد باقي الفصول باتحادنا لاستكمال دورة الحياة الاعتيادية.

فوبيا الحب
لم أعد بعد رحيلها أرغب بالاستمرار، تعبت.. هل تملك أن توقف هذا التعب؟ أموالك ومعارفك وأصدقاؤك لم يمنحوا والدتي المزيد من العمر حتى أقبلها أكثر. ببساطة الرحيل رحلت. هذا ما قلته له وأنا أودعه بالمطار. لم يجبني ووعدني بالعودة من جديد. لأول مرة أستعطف رجلا من أجل البقاء كما فعلت معه. لكن وطنا آخر ينتظره، فقد أبناءه تباعا، هو يملك أن يعيد بعضهم ممن لم يرحلوا رحيل أمي، يملك أن يوقف نزيف الأرض بصوت منه، يملك أن يغير مصير قضية فقط بإعطاء رأيه، الناس يؤمنون به، لأنه نبي في زمن انتهت فيه النبوءات.
كنت أحسني في كل لقاء جديد معه أنه الأخير، خشيت أن أفقده كما أفقد كل شيء تعطيه لي الحياة. لا شيء ثابت حتى الأرض تدور حول نفسها، حتى الشمس تمشي لمستقر لها، إنها سنة كونية. أفكر كثيرا في أن أرحل قبل أن أعثر على خبر اغتياله أو إعلان تعزية يحمل اسمه عنوان الصفحة فيه.. في إحدى الجرائد التي أتصفحها كل صباح، أو أسمع الخبر بين صفوف المثقفين يتناقلون أخباره كما آراءه. هكذا اعتدت وأصبحت أنتبه له بعدما دخل حياتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى