زمن التيه الإخواني
كثر اللغط داخل مقر الجمعية.. انتهى النقاش إلى ضرورة دعم «الأخ حسن» في هذه المعركة التي انطلقت شراراتها الأولى.. لم أتدخل أبدا في هذا الجدال.. مكثت صامتا طيلة اللقاء.. لا أستطيع أن ألتقط أنفاسي.. كل شيء يتغير من حولي بسرعة قطار «عويطة» (على اسم العداء سعيد عويطة).. لا أحد طلب مني رأيا.. ولا استشار معي..
فهمت بعدها أن الإخوان علموا بموقفي من «حسن».. وبموقفي من المشاركة السياسية برمتها.. لذلك ربما أعطيت للأتباع تعليمات بالعمل دون مشاورتي في الأمور السياسية.. منذ هذه اللحظة بدأت أتوارى إلى الخلف..
قلت في نفسي:
ـ إذا كانت هذه الحركة الإسلامية تأسست منذ البداية لترشيح أشخاص مثل «حسن»، فهي لا محالة حركة ضالة.. لم يكن همها أبدا الدعوة إلى الله.. إنها بكل بساطة حركة سياسية جاءت لتشارك في الانتخابات.. وتأخذ حصتها من الكعكة السياسية.. ولا فرق بينها وبين باقي التنظيمات.. كيف لنا الآن بمحاربة اليسار والاشتراكيين، ومؤسس حركتنا هو شخص قادم من اليسار.. يا له من تناقض فتاك!!
بتُّ أعيش في حيرة قاتلة.. هل أسسنا «الجلسات التربوية» فقط لدعم «حسن» في الانتخابات؟.. أكاد أفقد عقلي من شدة التناقضات الفكرية التي قلَّبت علي المواجع..
بدأت الدعاية الانتخابية.. كانت الأخت «فاطمة» هي مديرة هذه الحملة الجارفة.. معاونوها المقربون هم:
ـ «عبد الرزاق» أخو المرشح.. له شبكة واسعة من زبنائه القدامى الذي كانوا يشترون منه «الشيرا».. يعرف كل شباب الكاريان.. وعلى اتصال بكل ذوي السوابق..
ـ «حليمة» أخت المرشح أيضا.. احترفت الدعارة قبل توبتها إلى الله.. وهي الآن تتوفر على أخطبوط من المعارف.. ليس داخل الكاريان فحسب، وإنما على مستوى المحيط..
استقدمت «حليمة» الخياط «علال» ليكون أيضا من أركان الدعاية.. وما أدراك ما «علال».. ومن لا يعرفه؟؟ إنه بكل بساطة «خياط الحي».. وهذا وحده كافٍ للتعريف به.. إذا اجتمع هؤلاء في دائرة انتخابية واحدة، فإن مرشحهم ناجح ولو كان معتوها؟؟
ساهمت شخصيا في استدراج هؤلاء إلى فلك «الإسلاميين» لمساعدتهم على تجاوز حالة الضياع التي غرقوا فيها.. لكن في النهاية اتضح لي أني كنت أُعِدُّهم داخل مختبر «الجلسات» ليكونوا نشطاء الحملات الانتخابية..
يا للعار!! اعتقدت أني أسدي خدمة لدين الله، فإذا بي كنت أقوم بتكوين محترفي الدعايات الانتخابية.. وبإعداد مهندسين لعمليات الاقتراع.. صدمت أيضا عندما لاحظت أن المقدم «شقيفة» يدعم من جهته مرشح الإخوان «حسن».. اختلطت علي الأمور حينها.. لم أستطع أن أفك هذه الشيفرات السياسية.. «شقيفة» ممثل المخزن يدعم مرشح الإخوان!! كيف حصل هذا؟؟ ومتى اتخذ هذا القرار؟؟ ومن أمر به؟؟
«شقيفة» حاربني بشدة.. وحرض ضدي «القائد».. واستدعاني أكثر من مرة إلى مكتب رجل السلطة.. وأطلق من حولي الشائعات.. ورماني بالفساد مع «حليمة».. وعلمت في ما بعد أنه هو من أوغل صدر زوجها «الشيخ الألباني» ضدي.. وأوشى إليه أني كنت على علاقة بها.. كاد «الألباني» أن يفتك بي.. ربما عنفها.. وعذبها.. وطلقها.. من أجل هذا الإفك الذي افتراه «شقيفة»..
انتبهت أخيرا إلى أن كل قوى الفساد تحالفت من أجل إنجاح مرشح «الإخوان».. أصبحت كالمعتوه يوم الزفة.. تجاوزتني الأخت «فاطمة».. بل همشتني نهائيا خلال الحملة الانتخابية.. أخوها القائد الإسلامي الكبير «أبو أيمن» حضر شخصيا إلى الكاريان لدعم جارنا «حسن».. ألقى خطابا أمام حشد واسع من الجماهير.. جاء بنفسه ليزكي الفساد.. بل ليدافع عنه.. حضرت مثل أيها الناس لسماع خطاب «أبو أيمن»..كنت في الصدارة وأصبحت الآن في ذيل الأحداث.. والسبب هو أني لم أرض أن أدافع عن شخص «مشبوه».. غير مؤهل نهائيا لتقلد منصب يخص تدبير الشأن الجماعي..
جاء «أبو أيمن» أمام الناس.. ومرشح الإخوان على يمينه.. وأخته «فاطمة على يساره.. و«حليمة» و«عبد الرزاق» والخياط «علال» والفقيه «البودالي» من ورائه.. كاد يغمى علي من فرط الصدمة..
«البودالي» العدو اللدود للإسلاميين..كان زعيم الفقهاء بدون منازع و«عين» المخزن عليهم.. يجمع الأموال في كل المناسبات.. في الأفراح والأقراح… عندما تحول المكان إلى «جمهورية إسلامية» يتقاسم فيها السلطة السلفيون والجماعة، حرَّموا على «الفقها» قراءة القرآن وجمع الأموال، فذهبت ريحهم وتفرق شملهم.. وكسدت بضاعتهم.. كيف يشارك «البودالي» و«الفقهاء» بعد كل هذا في دعم مرشح الإخوان؟ هذا تناقض واحد من التناقضات التي لا توجد إلا في عالم اسمه السياسة!!
قال الأخ المحترم.. أستاذ العلوم.. والقيادي المحنك.. والواعظ والخطيب.. والمرشد العام.. والسياسي الكبير «أبو أيمن»:
(… لقد عشت فيكم دهرا طويلا.. وعاش من قبل والدي ووالدتي.. عشنا جميعا منكم وإليكم.. تقاسمنا في هذه الحياة حلوها ومرها.. ولم أتخل أبدا عنكم.. ولولا مشاغل العمل.. وضغط المسؤوليات لما ابتعدت عنكم لحظة.. وها أنا اليوم أشارككم هذه المحطة الهامة في حياة الكاريان.. جئت إليكم اليوم لأقدم لكم مرشحنا المحترم «سي حسن».. جاري وجاركم.. عاش هو أيضا بين ظهرانينا.. أنا متأكد أن «حسن» قدم خدمات جليلة لكل واحد منكم.. من منكم لم يقض له «حسن» حاجته في البلدية.. من منكم لم يقدم له «حسن» يد المساعدة.. كان طول حياته مثالا للرجل الخدوم.. الذي لا يتأخر أبدا في نجدة المستغيث به.. جاء اليوم الذي تقفون إلى جانبه.. جاء اليوم الذي تردون فيه الجميل.. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.. صوتوا بكثافة على مرشحكم «حسن».. اقطعوا الطريق على الفاسدين.. والمرتشين.. والانتهازيين.. والاستئصاليين الذين صوتم لفائدتهم في الفترات السابقة ولم يوفوا بعهودهم.. وتخلوا عنكم عندما نجحوا في الانتخابات.. وحققوا مآربهم السياسية والمادية.. حان الوقت لتقطعوا مع العهد القديم.. لنحارب الفساد والمفسدين معا.. جاء الوقت لنقوم بالتغيير اللازم.. ولن تجدوا خيرا من جاركم «حسن» للتصويت عليه…).
تدخل «أبو أيمن» بكل قوته من أجل أن يفوز مرشح «الإخوان».. شارك بنفسه في الدعاية الانتخابية.. لأن الخصم السياسي كان قويا.. ويملك حظوظا قوية للفوز بمقعد في البلدية.. ومما أعطى لهذا الصراع نكهة سياسية غير عادية هو أن المنافس للإخوان تقدم باسم حزب «اشتراكي».. له تاريخ حافل بالنضالات.. يفوز دائما في دائرته.. أي أن الكاريان يمثل قلعة انتخابية له.. اتخذ «الإخوان» جمعية العمل الاجتماعي مقرا لإدارة الحملة الانتخابية.. ارتكزت على عنصرين هامين.. وخطيرين في الوقت نفسه:
ـ أولا الطعن في مصداقية المرشح الاشتراكي.. أي المساس بحياته الخصوصية.. ـ ثانيا استعطاف الجمهور «المتدين».. والعزف على حب المغاربة للدين على مر التاريخ، للتصويت لفائدة مرشح «الإسلام»..
استغل «أبو أيمن» وأخته «فاطمة» «الدين» أبشع استغلال في هذه المعركة السياسية.. ركزا في حملتهما على أن الاشتراكية مناقضة للإسلام.. وأن المرشح كان «شيوعيا» في ما مضى.. وأنه لا يصلي.. يدخن.. ويعاقر الخمر.. لكن تناسيا أن مرشحهما هو أيضا كان في السابق من ذوي «البليات».. كل بني آدم خطاء كما قال لنا نبيُّنا عليه السلام.. والعصمة للأنبياء والرسل.. وأيضا لمن شاء الله أن يكون كذلك..
«الاشتراكي» المسكين لا يدري بأن الكاريان انقلب رأسا على عقب.. لم يعد يستظل بمظلة «موسكو».. تحول في ظرف وجيز إلى قلعة للإسلاميين.. الفضل بطبيعة الحال يرجع إلى «أبو أيمن».. الذي أدخل «دين الإخوان» إلى المنطقة.. وفي ما بعد سرَّب بهدوء فكر «الجماعة» إلى ثناياه المظلمة..
آزرته من جهتي في «أسلمة» هذه الدائرة الهامشية.. وذلك عبر تكوين سلسلة من «الجلسات».. التي كان ظاهرها «تربويا».. وباطنها سياسيا مقيتا.. في إطار جماعة من المنشقين عن «الشبيبة».. لقد مهد «أبو أبمن» لحملته الانتخابية في غفلة من الجميع.. ونجح في ذلك بامتياز.. إنه سياسي بارع..
أصبح المرشح الاشتراكي الآن يواجه جمهورا متدينا داخل الكاريان.. ربما لم يحسب جيدا هذه التطورات الميدانية.. طرده الإسلاميون.. وتعقبوه أينما توجه.. تحالف «السلفيون» مع «جماعتنا».. وناصروا مرشح الإخوان «سي حسن».. لأنها أصبحت معركة دينية.. ولم تعد أبدا تنافسا انتخابيا..
كتب «الاشتراكيون» في جريدتهم أن «التطرف» نبتت جذوره في المغرب.. وأن «الزحف الأخضر» قادم.. وأن المغرب يتهدده خطر التشدد.. وأن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في خطر.. كتبوا أيضا أن «المخزن» يدعم «الإسلاميين» عندما علموا بأن المقدم «شقيفة» يحرض الناس على التصويت لفائدة المرشح الإسلامي «حسن».. لم يسمع أحد صيحاتهم.. لقد ضاعت وسط اللغط.. مع اقتراب نهاية الحملة الانتخابية، منع «السلفيون» و«الحركيون» المرشح الاشتراكي من الدخول إلى الكاريان.. الآن أصبح «حصنا إسلاميا» بكل ما تعنيه الكلمة من معان..
جاء يوم الامتحان.. صوَّت الجمهور المتدين، الذي تم إعداده بعناية فائقة لهذا الغرض، لفائدة المرشح الإسلامي.. وفاز بمقعد انتخابي عن دائرة الكاريان بسهولة كبيرة.. دوَّت الزغاريد في كل مكان.. أعلن «الألباني» (الذي يحرم كل شيء) عبر مكبر الصوت الموجود في المسجد عن فوز «حسن».. العجيب في الأمر كله أن هذا «الشيخ» استولى على المسجد بصفة مطلقة.. وأطلق العنان لمكبر الصوت، فصدحت حنجرة «السديس» في كل الأرجاء.. كنت في المنزل وحيدا أفكر في ما يجري حولي، فإذا بي أسمع «السديس» يقرأ سورة «التوبة».. شعرت بخوف شديد.. بدا لي أن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة.. فَزِعتُ لأني كنت أعتبر نفسي ـ بشكل غير مباشر ـ مسؤولا عن هذا الوضع الجديد.. وأتحمل وزرا معنويا في ما يحصل..
إنه الزمن البئيس للإخوان.. إنه زمن التيه..