زمن آخر
هي
وما كان بيننا لم يكن يتحكم فيه الجسد، كان حوارا من العقل إلى العقل، ولم تكن قادرا على هدم جدار الاحترام أو مس الجسد الذي لم يكن مقدسا كما العقل. وأخذت على عاتقك تحمل الوضع حرصا على عدم خيانة نفسك أو هدم ثقتي التي منحتك، وكنت والدا يتحسر معي على أبوته التي تحتجزه في بؤبؤ ضيق يرى فيه أقتم درجة من السواد. وكان الاقتراب منك بمثابة ذبحك وكأنك تسعد بانتحارك وأنت واقف بأعلى قمم احتمالك، وترمي بنفسك إلى منحدر المستحيل.
ولم أكن أحس بشيء، نعم لم أكن أحس بشيء، كنت أتعامل معك على أساس آخر، على خلفية لا علاقة لها بتصوراتك.. كنت بالنسبة لي شخصا من زمن مغاير، السند الذي يعتمد عليه والرأي الصائب، كنت الضمير الذي لا يموت والإطار الذي يمنع حماقاتي من تخطي حواجز العقل. وكنت أجد نفسي أحيانا أظلمك أو ربما آخذ من وقتك ما لا يحق لي فعله، وكنت أحس بالإحراج لأنك لم تقل لي يوما أن أتوقف عن طرح السؤال، وأنك لم تعد مستعدا لإجابتي أو لأنك لا تريد الجواب، ورغما عنك كنت تفعل، ولم أكن أجد غيرك لأسأله، ربما لأن الثقة حين نجدها نكف عن البحث عنها، وربما كلانا لم يكن على استعداد ليفقد الآخر مهما كان التعريف الذي يطبع نوع العلاقة.
هو
كنت الحلم الذي لم يتحقق، والذي لن يتحقق، وبقيت أراك في المنام فقط، تزورينني فتجدينني لا أبرح بابك لأنه الوحيد الذي أرى عبره العالم بلون أخضر. وكنت قد جئت من زمن آخر، زمن الحرب والدمار والنار، ربما كنت فاقدا للأمل في أرضي التي تلد الشوك وتجعلني أطؤه وأطؤه دون أن يتوقف نزفي ودون أن يأتيني الأجل فأموت، لكن الشوك يلد الورد، وكنت الزهرة التي زينت كل الشوك، والتي تحدت كل الشوك والتي حلمت أن تصبغ الشوك لكي لا يبدو شوكا.
والتقيتك ذات مساء تنشدين الحرف على مسامع عشاقه، وتوقفت أمامك ولم أعد أميز هل عشقت الحرف أم عشقتك أم عشقت الحياة التي بدأت أراها لأول مرة عبر عينيك.. ولم أكن بالمراهق ولا بالحالم ولا بالأحمق، كنت بشرا يتحدى الضعف الذي خلق منه، ولم أتجاوز يوما حدود ضعفي، ولم تكن قوتي في مواجهة ضعفي سوى إيمان مني بكوني غير قادر فعلا على تجاوزه.
وكنت رقيقة، طيبة، خلوقة، تنظرين للحياة بحكمة تتجاوز سنك، تطمحين إلى ما يطمح إليه الفلاسفة، فتحسين أحيانا بالعظمة وتتملكك نرجسية وكبر، ثم تبدين طفلة ساذجة تقود الأطفال في لعبة وتأمرهم كأنها القادرة الوحيدة على التسيير، وكنت تلجئين إلى هذا إلى أن تحسي أن شيئا يمنعك من الاستمرار، ولم تكوني تحتاجين لأكثر من دفعة نفسية وكلمة يقولها شخص مثلي، شخص نهل من الحياة ما يجعله حكيما في نظر الناس ومظلوما في نظر نفسه..