زائر التاريخ الذي يكتب بلغة اللباس
عاش عصراً آخر كان يراه أقرب إلى أحلامه، تلك التي تمتزج فيها الألوان والحركات والعطور القادمة من بعيد. يسدل على جسده النحيل لباسا أنيقا ويزين أصابع يديه بخواتم من فضة.. ولابد أن يلف عنقه بمنديل حريري.
يلبس كما يرسم، ويرسم كما يرى. لا تستقر عيناه على مفصل تاريخي تنجذب نحوه بشغف كبير، إلا من أجل أن يعاود زيارات إلى الأقاصي والمجاهل. الناس يزورون المتاحف وهو يصنعها بالأنامل التي لا تفارقها الخواتم.
من أين قدم هذا الكائن الذي اسمه العربي اليعقوبي؟ إنه لا يسعى لأن يكون إنسانا آخر غير ما اختاره. يعيش غربته وسط الازدحام، ويكون أكثر من شخص في لحظة واحدة. يرسم أشكال وألوان الأزياء على قطعة ورق جامد، ثم يمنحها حياة دافئة، إذ ترصع أجساد الممثلين والممثلات، بعد أن تكون مرت مرتجفة تحت أسنان المقص وآلة الخياطة. أي معنى أن يكون الإنسان مصمم أزياء تختلف عن تقليعة الموضة؟ وأي إحساس يخالجه وهو يجتر كائنات من أعماق التاريخ، ويجعلها تتحرك فوق خشبة المسرح الذي جاءته من أزمان غابرة؟
لم يكن ساحر أراجوز يحرك الدمى، بل كانت قامته المديدة تسنح له بأن يكتب عبر الرسم وتصميم الأزياء. ولو لم يكن مصمما مفتونا بالشخوص والتواريخ والتقاليد والعادات، لكان عالم اجتماع أو مُشرحا نفسيا يغوص في أعماق الأبطال الذين يتحركون على خشبة المسرح، سبيله إلى ذلك أصناف الألبسة ومراتبها ومميزاتها وفصول ارتدائها.
قبل أن يصل النعي الذي يقول إن الموت غيب الفنان المسرحي العربي اليعقوبي، كنا نتداول في أسماء صنعت أمجاد الجوق الملكي. وإذا بالسؤال يقفز: أين رحل مايسترو جوق الخمسة والخمسين الذي حافظ على قفطانه الأخضر، كما في ماضي طقوس الألبسة؟ وها أن الناعي يحيل على مايسترو من نوع آخر، يعشق اللباس ويهيم في ثناياه، كمن يرحل عبر الأزمان.
ذات طريق تبدأ من وسط الرباط وتنتهي عند خلجان غابة «المعمورة»، التي كانت تأوي المركز الوطني للشباب، أوحى إلي الصديق إدريس التادلي بأن أحسن تحقيق لم تكتبه الصحافة، يمكن أن يهم مستودع اللباس الذي يخص فرقة «المعمورة» المسرحية. فهو يختزل تاريخا كاملا بالعروض والوجوه والأسماء والمؤلفات والروائع. ثم أشار إلي أن مصمم أزياء يدعى العربي اليعقوبي، يستطيع أن يدلك على تفاصيل ممتعة.
كنت أعرفه، وقد جلست رفقة مسرحيين هواة آنذاك، مثل ثريا جبران، والفاضلي ومحمد أبو الصواب، ننصت إلى دروسه في فن تصميم اللباس. كانت تعتمد البساطة والخيال والقدرة على استيعاب أن أسرار الألبسة لا تختلف عن المطبخ والعطور والأسلحة كذلك، فالإنسان الذي كان يحتمي بأوراق أشجار الغابة، لم يفته أن يدافع عن نفسه من غدر الوحوش. ثم صار اللباس مثل المعادن التي تلمع. كلما كان توقيع مصممها كبيرا ذا حضور في عالم الموضة، كانت الكلفة أغلى.
يبتسم العربي اليعقوبي، وهو يقول: القمصان والسراويل والجوارب متشابهة الأشكال والألوان، لكن قيمتها في الاسم الذي يوضع عليها، إضافة إلى الجودة والنوعية. إنها مثل اللوحات والأساور وحقائب النساء. غير أن حرية الأسواق التي ابتليت بالتقليد والقرصنة وفائض السلع، أغرقت واجهات الدكاكين والأرصفة، وغدا لن يبق للإسكافيين ما يصنعون. تماما كما اختفت السراويل المرقعة بدافع الحاجة. ومنذ أن أخفى جيمس دين عنق قميصه عبر رفعه إلى فوق لإخفاء ترهله، صارت الموضة تكيف الأذواق.
في مستودع الملابس في غابة «المعمورة»، كانت ظلال البسمة تغرق وجه الفنان العربي اليعقوبي، وهو يتنقل عبر أزمنة وأمكنة تباعدت مسافاتها. هذا قميص ديدمونة الذي ارتدته الممثلة فاطمة الركراكي، وهذه عباءة عطيل الذي راودها بكفي يديه قبل أن يخنقها. هذه بزة الضابط مونسيرا التي ارتداها محمد سعيد عفيفي في مسرحية «ثمن الحرية»، وتلك جلابة جحا التي كان يختفي وراءها الممثل أحمد العلوي في مسرحية «عمايل جحا». لكن قلنسوة «ولي الله» التي كتبها أحمد الطيب العلج لازالت ألوانها كما هي.
يا له من رجل أضداد وتناقضات، يسرح بعيدا في أعماق التاريخ المسرحي، يصمم أزياء روائع شكسبير، وما يلبث أن يندس وسط تقاليد أناس من عصر آخر. وعندما ينادي عليه المخرج العالمي مصطفى العقاد، سيجد متسعا من الوقت تستغرقه حياة أهل قريش. كما فعل مع «لورانس العرب» يوم كانت تطرق مسامعه طلبات كبار المخرجين العالميين، تستأذنه في وضع بصماته على تصميمات ملابس نجومها المشهورين.
تذكرت على الفور أنه كان يبادل أصدقاءه الكبار من مخرجين ومنتجين سينمائيين مودة وألفة، نادرا ما كان الحزن أو القلق يتسلل إلى عالمه، وفي آخر لقاء منذ سنوات كانت تستغرقه فكرة وفاء لمخرج عالمي، قال إنه كان يرغب في تصوير مشاهد من فيلمه في المغرب. قلت: وهل وقف بباب المركز السينمائي المغربي؟ أجاب في الحال: إنه يتوفر على ترخيص، لكنه يحب المغرب كثيرا ويرغب في لمسة اعتبار.
هاتفت مسؤولا من فريق العهد الجديد، لاشك أنه سيتذكر تفاصيل الحكاية، وأخبرته بالتماس صادر عن العربي اليعقوبي لفائدة المخرج الكبير. وبعد وقت قصير جاء الجواب مشجعا على قدر العزم. فالسينمائيون أفضل سفراء. بكى العربي فرحا، وسمعته يحدث المخرج بإنجليزية تنسكب منها روح صداقة عالية.
اختلطت البسمة والدمعة في آن. وطلب إلي أن أوقع شكرا باسمه والمخرج الأمريكي. كان جاء إلى الرباط قادما من طنجة التي لم يعد يفارقها، فلم يعد ينتظر سوى النهايات التي تأتي دائما في موعد لا يتنبأ به المرء. قال أيضا إنه أكمل مهمته. وودعته للمرة الأخيرة.