«ريحتنا» التي طلعت في أزمة اللاجئين
صحيح أن اللاجئين ليسوا كلهم سوريين، ولكن لأن الكارثة الأكبر هناك، فقد أصبحت سوريا المصدر الأكبر للاجئين، إلى جانب أن هناك أعدادا متفاوتة من السودانيين والفلسطينيين والعراقيين وأبناء دول الشمال الأفريقي، وإذا كانت الأغلبية من ضحايا صراعات المنطقة العربية، فإن هناك آخرين من أبناء المنطقة يقصدون دول الشاطئ الأوروبي المقابل بسبب الظروف الاقتصادية الطاردة في بلدانهم الأصلية.
في مواجهة زحف اللاجئين نحو أوروبا تحركت المفوضية الأوروبية واقترحت توزيع أعدادهم على الدول الأوروبية، خاصة أن إيطاليا واليونان المطلتين على البحر الأبيض طالبتا بأن تقاسمهما الدول الأوروبية أعباء اللاجئين، لكن دول الشمال -ما خلا السويد وألمانيا- دعت إلى الإبقاء على اللاجئين حيث حطوا رحالهم، وأن يمنحوا اللجوء هناك، ورفض التشيكيون والسلوفاكيون استقبال اللاجئين. وأمرت حكومة المجر ببناء جدار بارتفاع أربعة أمتار على طول الحدود مع صربيا (١٧٥ كيلومترا) للحيلولة دون دخول اللاجئين إلى أراضيها.
وأعلنت بولندا أنها سوف تستقبل فقط المسيحيين دون غيرهم من بين اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط. وقد أشرت إلى أن الحكومة الألمانية كانت أكثر شجاعة حين فتحت مع النمسا حدودهما أمام المهاجرين، ولجأت بون إلى تعليق العمل باتفاقية «دبلن» التي نصت على توحيد إجراءات الهجرة بين الدول الأوروبية،
كما نصت على إعادة المهاجرين إلى الدول التي جاؤوا منها، إلا أن تفاهمات السياسيين على أهميتها ليست العنصر الوحيد المؤثر في الموضوع، لأن المشكلة لها أصداؤها التي لا تنكر في التعامل مع الملف.
فإلى جانب الأصوات التي تضامنت مع مظلومية اللاجئين، فإن الأحزاب اليمينية وجدت المشكلة فرصة وحجة قوية استندت إليها في تأجيج المشاعر وتعبئة الرأي العام ضد ما سمي «الغزاة الجدد» حينا ومحاولات «أسلمة» أوروبا حينا آخر.
في هذا السياق، ذكرت التقارير الصحفية أن شعبية السيدة ميركل تراجعت بسبب تعاطفها مع اللاجئين، في حين هاجم بعض المتطرفين من الشباب الألماني بعض مراكز تجمع اللاجئين وحاولوا إشعال النيران فيها، وفي الانتخابات الإقليمية والبلدية في إيطاليا دعت «رابطة الشمال» إلى اعتقال المهاجرين وإعادتهم من حيث أتوا. وفي الانتخابات التشريعية في الدانمارك حاز حزب الشعب 21 في المائة من الأصوات، وتضاعفت نسبته من الأصوات مرتين قياسا على انتخابات عام 2010، خاصة أنه دعا إلى تشديد قوانين الهجرة للحد منها، وتتحدث التقارير الصحفية عن صعود محتمل للتيارات السياسية والشعبوية في كل من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، بعدما تعالت الأصوات المحذرة من إرهاب الوافدين و»أسلمة» القارة وتهديدات الوحدة الأوروبية.
الغائب الأكبر عن المشهد هو العالم العربي، والراسب الأكبر في الاختبار هو الجامعة العربية التي غدت نموذجا يجسد انهيار النظام العربي وإفلاسه.
ذلك أننا إذا اعتبرنا أن أزمات المنطقة حاضرة في قلب ملف المهاجرين، فسوف يلفت أنظارنا أن الأمم المتحدة هي التي حاولت حل تلك الأزمات، وأن الجامعة العربية خارج الصورة تماما. فمبعوثو الأمين العام هم الذين يحاولون التوسط في البحث عن حلول في سوريا وليبيا واليمن. وقبل ذلك نفض النظام العربي يده من القضية الفلسطينية وترك ملفها للجهود الدولية ومفاوضات القاتل مع القتيل، وهو ما أعطى انطباعا قويا بأن مستقبل العالم العربي أصبح خارج اهتمامات الجامعة العربية أو حتى الحكومات العربية.
الذي لا يقل إدهاشا عما سبق أن المجتمع المدني العربي والنخبة بمختلف توجهاتها كانوا ضمن الغائبين، وحين نشرت صحفنا أسماء المشاهير الذين أعربوا عن تضامنهم أو أسهموا بتبرعاتهم الرمزية لصالح إغاثة اللاجئين، فإننا لم نجد بينهم اسما عربيا واحدا.
أستثني من ذلك النادي الأهلي المصري الذي وافق على إقامة مباراة في كرة القدم مع نادي بايرن ميونيخ يخصص عائدها لصالح اللاجئين،
وكذلك دعوة لاعب الأهلي وليد سليمان إلى التضامن معهم وتبرعه بمبلغ خمسين ألف جنيه لافتتاح الحملة، وإعلان رجل الأعمال نجيب ساويرس عن رغبته في شراء جزيرة في البحر الأبيض لإسكان اللاجئين فيها. ولم يُعرف ما إذا كان المشروع استثماريا أو إنسانيا.
كان لدول الخليج نصيبها من العتاب على الغياب، فاستعاد البعض موقف تلك الدول حين فتحت أبوابها لاستقبال الكويتيين الذين هاجروا من ديارهم أثناء الغزو العراقي لبلادهم عام ١٩٩٠ أثناء حكم صدام حسين، وكتب المعلق البريطاني الشهير روبرت فيسك مقالة نشرتها صحيفة «الإندبندنت» في الرابع من سبتمبر/أيلول الجاري ألقى فيه السؤال التالي:
لماذا يأتي العرب إلى بلاد «الكفار» طلبا للنجاة بدلا من الاتجاه إلى دول الخليج؟
في الرد على السؤال تراوحت الإجابات بين مؤيدين له، ومذكرين بأن الخليج لم يقصر في دعم مجتمعات الصراعات التي خرج منها اللاجئون، بحيث لا يستطيع أحد أن يزايد على دوله في الدور الذي تقدمت به لمساندة الأشقاء العرب.
وإذ أزعم أن السؤال له وجاهته، وأن دول الخليج كان بوسعها أن تغطي النقص الفادح في الموارد المالية اللازمة لإغاثة اللاجئين، فإنني أرى أن المشكلة عربية أكثر منها خليجية؛ أعني أنه حين تغيب دول الصف الأول «الكبرى»، وتنكفئ على ذاتها، مستغرقة في صراعاتها الداخلية، وحين لا نرى للجامعة العربية أثرا أو وجودا من أي نوع في مختلف قضايا المصير العربي، فإننا لا نستطيع أن نخص باللوم دول الخليج دون غيرها.
لا مفر من الاعتراف بأن أزمة اللاجئين جاءت كاشفة لحقيقة الموقف العربي، وفاضحة لكل ادعاءات التضامن والعمل المشترك الذي يتمسح به البعض هذه الأيام، وإذا جاز لي أن أستخدم الشعار المرفوع في لبنان الذي يعبر عن إدانة القائمين على الأمر في بيروت واليأس من ممارساتهم، فلعلي أقول إن «الريحة» التي طلعت ليست لبنانية فحسب، لكنها عربية أيضا وبامتياز.