روما الجديدة
سعيد الباز
يتضمن الدستور الأمريكي بندا ينص على عزل الرئيس ومحاكمته، في حالة ارتكابه جرائم يدينها القانون الأمريكي. وقد حرص الآباء المؤسسون لأمريكا في وثيقتي الإعلان عن الاستقلال ودستور أمريكا، على الإشارة إلى مجموعة من المبادئ الأساسية تتمثل في النظام الفيدرالي والفصل بين السلطات، وفي خطوة هامة وحتى لا تستفرد السلطة التنفيذية بسلطاتها الواسعة، خاصة رئيس الولايات المتحدة، رأت أن تسن في الدستور نصا يوجب عزل الرئيس، وبالتالي محاكمته وفق إجراءات محددة ينبغي الالتزام بها.
لقد استطاعت أمريكا طيلة تاريخها أن تطيح بالكثير من الرؤساء خارج بلادها عن طريق الاغتيال أو تدبير الانقلابات عبر العالم، وأكثرها غرابة أن تعتقل الرئيس البانامي مانويل نورييغا وتزج به في سجونها، بدعوى الاتجار في المخدرات وتهريبها إلى الولايات المتحدة. لكنها لم تنجح إلى حد الآن في محاولة عزل رئيس أمريكي سوى في حالتين فاشلتين، وحالة ثالثة استطاع فيها الرئيس ريتشارد نيكسون، المتهم بالتجسس على خصومه في القضية المعروفة بـ«ووتر غيت»، أن يستقيل قبل أن ينعقد مجلس النواب للنظر في إجراءات العزل، ثم توجيهه إلى المحاكمة. هذه الاستقالة مكنته من الخروج من الباب الضيق للتاريخ، وينال بعض المواساة من نائبه جيرالد فورد الذي أصبح بعده رئيسا، فأصدر أول قراراته بالعفو عن سلفه نيكسون. الخروج المذل لريتشارد نيكسون جعل أمريكا تنسى واحدا من كبار رؤسائها، استطاع أن يخرج بلاده من مستنقع الحرب في الفيتنام وأن يعترف بالصين الشيوعية، ما أدخل أمريكا في مرحلة جديدة من العمل الدبلوماسي يسعى إلى خلق التوافقات والابتعاد قدر الإمكان عن صراعات الحرب الباردة المحفوفة بالمخاطر.
أول رئيس أمريكي سيتعرض للعزل كان أندرو جونسون سنة 1868، كان معروفا بمواقفه الطائشة وأسلوبه الفظ في التعامل، إضافة إلى الغرور الشديد وقراراته العنصرية واعتبر أسوأ رئيس في تاريخ أمريكا. تولى الرئاسة بعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، عقب مقتل الرئيس أبراهام لينكولن بصفته نائبا للرئيس، فدخل في صراع مع مجلس النواب وأعضاء في إدارته، حيث أعفى الكثير منهم لأسباب غريبة، ما جعل مجلس النواب يقرر عزله ويحيله على مجلس الشيوخ، لكن بفضل الانقسامات بين أعضاء مجلس الشيوخ تمكن من الحصول على البراءة. لكن الرئيس الأسبق بيل كلينتون كان حالة استثنائية، لأنه واجه إجراءات العزل بسبب فضيحة مونيكا لوينسكي وهو في أوج شعبيته، وتمكن في مجلس الشيوخ من الحصول على براءته.
حاليا بدأت في أمريكا ثالث حالة عزل للرئيس، بعد أن قررت رئيسة مجلس النواب بعد تردد سابق إجراءات المساءلة، التي تفضي إلى الإقالة والشروع فيها وبصفة علنية بداية من الشهر الجاري، بعد انكشاف أمر حصول اتصالات بين الرئيس ترامب والأوكراني زيلينسكي يطلب فيها معلومات عن نجل خصمه الديموقراطي في الانتخابات الأمريكية المقبلة جون بايدن، وإجراء تحقيق معه بخصوص بعض أعماله التجارية والمالية بأوكرانيا، قصد استغلالها في حملته الانتخابية القادمة.
إذا ما جرت الأمور على النحو الذي يقرره الدستور الأمريكي، فإن مجلس النواب ذي الأغلبية الديموقراطية سيحيل القضية بصفته مدعيا عاما على أعضاء مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية بصفتهم محلفين، وتحت رئاسة كبير قضاة المحكمة العليا سيصدر قرار الإقالة أو البراءة، هذا القرار يتطلب ثلثي مجلس الشيوخ، وهو في صالح ترامب ما لم تحدث مفاجأة غير منتظرة.
فهل سينجو ترامب مثلما نجا شبيهه أندرو جونسون، أم سيكون أول رئيس أمريكي تعزله المؤسسة التشريعية في بلاده؟ الجواب ستأتي به الأيام القادمة، لأن حدثا مثل هذا قد لا يهم أمريكا وحدها بل العالم برمته. أو كما قال الكاتب الفرنسي جوزيف جوفو: «إذا كانت كل الطرق قديما تؤدي بنا إلى روما، فإننا نعلم اليوم أنها تقودنا إلى أمريكا».