روزفلت والسلاطين :تقرير يكشف أفضال المغرب على أحد كبار رؤساء أمريكا سنة 1901
«التقرير يقول إن الرئيس روزفلت راهن كثيرا على الصداقة مع المغرب، لأنه كان يعلم أن سفنه تحتاج إلى إدارة في اليابسة لتدبير تحركات تلك السفن، وفعلا كانت تلك البوارج الأمريكية ترى في شواطئ طنجة، المكان الأكثر أمانا لها لكي تتزود بالمؤونة، أو لتحرس مرور السفن التجارية الأمريكية التي كانت تعاني في السابق مع القراصنة.
نحن بصدد وثائق تاريخية تمت دراستها والتعليق عليها سنة 1975، أي بعد سبعين عاما على وفاة المعني الأول بها، وهو الرئيس الأمريكي روزفلت. هذه الوثائق ربطت اسم الرئيس بسياق الأحداث التي جعلت منه رئيسا، ووصفته بأنه أب البحرية الأمريكية وصانع مجد المقاتلات الأمريكية، التي كان أغلبها يرسو دائما على بعد أمتار فقط من المغاربة.
يونس جنوحي
من يكون «ثيودور روزفلت» صديق السلاطين؟
رغم أنه كان سياسيا محكنا، إلا أنه كان أيضا جنديا قبل أن يحترف السياسة.
عندما وُلد ثيودور روزفلت سنة 1858، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تصنع ترسانة من القوانين والآليات، لكي تصنع دولة قوية تنافس دول أوروبا.
قضى طفولة عصيبة جدا، وتوقع أفراد عائلته أن يموت قبل أن يتم سنواته العشر الأولى، بحكم أنه كان مصابا بالربو المزمن، وهو المرض الذي كان يحصد ضحاياه في الولايات المتحدة سنويا.
وبسبب الطفولة الصعبة التي عاشها الطفل ثيودور، في وسط بلد حافل بالمهاجرين من كل أنحاء العالم، تأثر كثيرا بالنضال الطلابي، وأصبح وهو في بداية شبابه أحد أهم قادة الإصلاحيين، ومن ذلك الباب ولج السياسة من أوسع أبوابها، حيث أصبح قائدا لفصيل الإصلاحيين الجمهوريين. وهناك بدأ يراكم تجارب في الترافع عن احتياجات الأمريكيين، وتعطشهم لرؤية بلادهم تتوفر على ترسانة عسكرية لمنافسة القوى الكبرى، خصوصا بريطانيا.
وقبل أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة سنة 1901، كان الأمريكيون بالكاد يعرفونه، بحكم أنه قضى كأي شاب أمريكي سنوات في الجندية، وبعدها تحول إلى الاستكشاف والمغامرات، حيث سبق له تأليف بعض الكتابات عن رحلاته. لكنه عندما أصبح الرئيس السادس والعشرين للبلاد، صدم الجميع بعد أن نجح في جعل البلاد في مصاف الدول العظمى في مجال صناعات المقاتلات البحرية، حيث صارت «البحرية الأمريكية» في عهده، أقوى جيش بحري في العالم.
وهكذا جدد له الأمريكيون لولايتين، إذ حكم روزفلت الولايات المتحدة ما بين سنتي 1901 و1909.
لكن كيف أصبح هذا الرئيس صديقا للسلاطين؟
نحن هنا أمام تقرير أمريكي أعده الباحث ويليام جيمس في فبراير سنة 1975، وتطرق فيه إلى جوانب خفية من علاقات الرئيس ثيودور روزفلت بمنطقة البحر المتوسط، وكيف أثر المغرب كثيرا في مساره السياسي، لكي يصبح أحد «أعظم وأقوى من مروا من البيت الأبيض».
التقرير يقصد بالسلاطين، الملوك المغاربة، الذين ربط معهم هذا الرئيس علاقات دبلوماسية ودية واستفاد من تعاونهم. وأيضا القادة الأتراك، الذين سحقهم خلال ما عرفت وقتها بأزمة أمريكا وتركيا في البحر المتوسط.
هذا التقرير يتناول جوانب مهمة من كواليس تحقيق روزفلت لإنجازات لم يسبقه إليها أي رئيس أمريكي، سيما وأنه أصبح رئيسا للبلاد في فترة حرجة جدا، كان يتعين عليه فيها أن يتحرك عسكريا لكي تصبح الولايات المتحدة مساهمة في تدبير أزمة البحر المتوسط، التي نشبت على الخصوص بين فرنسا وبريطانيا، بشأن اقتسام النفوذ في شمال إفريقيا. وكان المغرب بطبيعة الحال متأثرا بتلك الأزمة، بل أول بلد معني باتفاق 1906 في الجزيرة الخضراء.
المبعوثون الدبلوماسيون الذين اشتغلوا مع الرئيس روزفلت من المغرب، لعبوا بدورهم دورا كبيرا في إنجاح مهمة الرئيس، وربما لولاهم لكانت مهمته أكثر صعوبة. التقرير يشير إلى أن المغرب كان دولة صديقة، ولعب دورا كبيرا في حماية المصالح الأمريكية في وقت كانت فيه الولايات المتحدة غير مستعدة للدخول في حرب في منطقة المتوسط.
وهنا يقصد التقرير أن الوثائق التي بنى عليها الباحث خلاصته، تتعلق بفترة حكم المولى الحسن الأول، والتي استفاد منها الأمريكيون كثيرا بحكم أن المغرب أنهى حالة الفوضى في البحر المتوسط، ولم تعد تتكرر حالات الاعتداء على السفن التجارية الأمريكية، أو السطو عليها وهي تعبر المتوسط.
جنى روزفلت ثمار هذا الاتفاق السياسي المغربي الأمريكي، الذي يعود إلى سنة 1820. وعندما توفي سنة 1919، كان يتابع أخبار العالم من سرير تقاعده، وهو يرى كيف أن المغرب كان نقطة أساسية في نشر قوات الدول الكبرى بحرا. كما لو أن الأمر الذي تنبأ به عندما كان رئيسا للولايات المتحدة، كتب له أن يراه بعينيه قبل أن يغادر الحياة.
الرئيس الذي جعل «البحرية الأمريكية» أعظم قوة في الأرض
في سنة 1902 كانت البحرية الأمريكية تجعل من أولى أولوياتها التنقل بحرا إلى كل أنحاء العالم لحماية رعاياها الأمريكيين.
مؤرخون أمريكيون، حسب التقرير الذي نحن بصدده، يقولون إن أحد أهم أسباب نجاح الرئيس روزفلت في هذا المسعى، ما وقع في المغرب خلال فترة ترشحه للرئاسيات.
إذ إن الإعلام الأمريكي كان ينقل للأمريكيين في الصحف أخبارا وصورا عن البوارج الأمريكية التي ترسو وقتها في شاطئ مدينة طنجة، لحماية البواخر التجارية الضخمة في طريق ذهابها أو عودتها إلى الولايات المتحدة.
وكان الرأي العام الأمريكي، حسب ما نقله التقرير، شديد الحساسية من الأخبار التي تتناول الاعتداءات على المصالح الأمريكية في البحر المتوسط على الخصوص، بحكم أن بريطانيا تعتبر وقتها المسيطر الأول على مضيق جبل طارق، وأنها توصلت قبل الأمريكيين بكثير، إلى اتفاقيات مع المغرب للفوز بصفقات تجارية.
الرئيس روزفلت استثمر وصول أخبار اختطاف الرعايا الأمريكيين في المغرب على يد القبائل، وتعهد بإنهاء الظاهرة، شريطة أن يصوت له الأمريكيون بكثافة، وفعلا فاز بفضل هذه السياسة بولايتين. لكنه عمل على تعزيز البحرية الأمريكية وجعلها أقوى جيش بحري، لأنها مفتاح سيطرته على الأوضاع في المنطقة، لكي يستمر دعم الأمريكيين له.
الرئيس روزفلت، كان أول زعيم في العالم يجيش الصحافة لصالح حملته الانتخابية، وهذا الأمر لوحده كان يعتبر وقتها غاية في الدهاء. إذ إن الأمريكيين جعلوا المغرب
طرفا في الحملة الانتخابية لأحد أقوى رؤساء الولايات المتحدة عبر التاريخ. والسبب أن العالم وقتها كان مشغولا بظاهرة البواخر المقاتلة الحديثة. وتفوق الأمريكيين في المجال كان بفضل سياسة روزفلت، الذي أقنع الأمريكيين بتخصيص ميزانيات ضخمة للصناعات الثقيلة في مجال السفن العسكرية، واستطاع أن يوفر لجيش الولايات المتحدة أقوى المقاتلات العسكرية في العالم، لحراسة مرور البواخر الأمريكية، وهو ما جعل شعبيته تزداد بين الأمريكيين. لكن الأمر لم يكن ليتم أبدا لولا الظروف السياسية التي كان يمر بها المغرب، ولولا استثمار الصداقة المغربية الأمريكية على الخصوص.
+++++++++++++++++
سُفن أمريكا الخرافية التي اعتبرها المغاربة من «العجائب»
منذ بداية أزمة دول البحر الأبيض المتوسط قبل 130 سنة تقريبا، والبوارج العسكرية الأمريكية ترسو على مقربة من طنجة أو الدار البيضاء.
هناك مصادر تاريخية تناولت علاقة المغرب والولايات المتحدة منذ سنة 1822، وتحدثت عن وصول بواخر أمريكية إلى شمال المغرب، وهو ما شكل وقتها حدثا استثنائيا، اجتمع الناس من المداشر والقرى لكي يتأملوا عظمة السفن الحربية الأمريكية المزودة بالمدافع، والتي كانت وقتها متفوقة كثيرا على السفن العصرية التي بدأ المغاربة يعتادون على رؤيتها تعبر على مقربة منهم في طريقها إلى المشرق، أو في طريق عودتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
لم يدخل المغرب في أي مناوشات مع السفن الأمريكية، بل كان أفراد الطاقم الأمريكي، بعد تأسيس المفوضية الأمريكية في المغرب خلال الفترة نفسها، ينزلون ضيوفا على مدينة طنجة، وحدث مرات كثيرة أن توجه ممثلو الوفد إلى فاس لكي يحظوا باستقبال سلطاني، سواء خلال فترة السلطان محمد الرابع، أو مع ابنه المولى الحسن الأول والذي وصل إلى الحكم سنة 1859.
هذه الوفود الأمريكية كانت قد حظيت بعلاقة وطيدة مع ممثلي المخزن. وحسب الوثائق الأمريكية، فإن الدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين كانوا قد استفادوا من العلاقات التي ربطها البريطانيون مع المخزن، بالإضافة إلى أن تسهيلات المولى محمد بن عبد الرحمن شملت الأمريكيين برعاية كبيرة، حيث أوصى ممثليه في الشمال، خصوصا حاكم طنجة والعرائش، بالتعامل معهم بعناية كبيرة والسهر على حمايتهم ومرافقتهم إلى فاس.
لذلك كان وصول الوفد الرسمي الأمريكي إلى فاس، حدثا كبيرا تخصص له استقبالات كبيرة، في وقت كانت فيه دول عظمى مثل فرنسا لا تربط أي اتصال مع المخزن، وحتى اللقاءات المحسوبة كانت مفاوضات لحل أزمات، مثل حوادث الاعتداء على الرعايا الفرنسيين.
كان اختطاف المواطنين الأمريكيين هو الهاجس الذي يحرك السفن الأمريكية، بالإضافة إلى حماية السفن التجارية التي تتعرض للسطو. وكان المغرب قبل وصول المولى الحسن الأول إلى السلطة، قد أنهى هذه المشاكل من خلال إبرام اتفاقيات صداقة مع الأمريكيين، في حين كانت الدولة العثمانية في الجزائر وتونس، تعيش على إيقاع من التوتر في علاقاتها بالولايات المتحدة، بحكم أن قراصنة ليبيا وقبائل السواحل كانوا يعتدون على السفن الأمريكية، أو يحاولون السطو على مؤونتها، وهو ما كان يجعل السفن الحربية تتدخل لتأمين مسار السفن التجارية.
وعندما ترسو السفن الأمريكية في المغرب، سيما في ميناء طنجة الذي كان يعتبر نقطة التقاء عالمية للتزود بالمؤونة، كانت كبريات الصحف الأوروبية تنقل صور الحدث وتعلق عليها. بينما كانت الصحافة الأمريكية تشيد بالعلاقات مع المغرب، وتعتبر توقفها في طنجة انتصارا للخارجية الأمريكية، التي استطاعت تأمين واحدة من أهم نقاط الملاحة البحرية حول العالم.
ومن الحكايات التي نقلها المؤرخون والصحافيون الأجانب عن وصول السفن الأمريكية إلى السواحل المغربية، أن سكان القبائل القريبة من البحر، كانوا ينظرون إلى السفن الأمريكية ويحتشدون لرؤيتها وهي ترسو بهدوء قرب الميناء. حتى أن «التايمز» البريطانية نقلت من خلال مراسلها «والتر هاريس» تساؤلات على لسان المغاربة، بينهم أعيان ومسؤولون في المخزن، كانوا يستغربون كيف أن تلك البواخر العسكرية العظيمة لا تغرق أبدا، رغم أنها تحمل أطنانا من المعدات الحديدية والمدافع الثقيلة.
الأدوار «السرية» لسفن أمريكية منقرضة
بعض السفن الأمريكية دخلت التاريخ، خلال فترة وجود الرئيس روزفلت في السلطة، أو قبل وصوله إليها بقليل، بل كانت وقائع على متن السفن الأمريكية، حاسمة في أن يسطع نجم روزفلت لاحقا بعد سنة 1905، حيث تحدثت تقارير أمريكية، منها التقرير الذي نحن بصدده، عن أن روزفلت عندما غادر البيت الأبيض، ترك البحرية الأمريكية في القمة باعتبارها أقوى قوة في الأرض.
أحد الأمريكيين الذين عاشوا كواليس انتشار البارجات الأمريكية في كل مكان، خصوصا في المغرب، هو أقدم قنصل أمريكي في المفوضية الأمريكية، التي تعتبر أول بناية دبلوماسية أمريكية في العالم. يتعلق الأمر بالسيد إدموند هولت، الذي أشار في مذكراته إلى دور البحرية الأمريكية في متابعة التطورات السياسية في المغرب. يقول:
«كانت تلك أياما مجيدة ومثيرة حتى بالنسبة إلى الأجانب في المغرب. كانت البلاد في وضعية غير مريحة تماما، كما كانت الولايات المتحدة الأمريكية في فترة الانتخابات الرئاسية. وكانت هناك أيام عندما كان الهجوم على المسيحيين مدبرا.
التقى الجيشان أخيرا، وفي نهاية اليوم لم يعد عبد العزيز سلطانا على المغرب، لكنه كان واعيا بالخدعة التي تعرض لها.
كانت هناك نزعة من السلطة، أو الملكية، في الرحلة الأخيرة التي قام بها عبد العزيز من عاصمة حكمه في اتجاه طنجة.
وبنسبة أقل في رحلته غير المعلن عنها إلى الخارج على متن الباخرة «ماغنوس»، في دجنبر 1909. مع «إدغار آلان فوربس» الذي كان بصدد الإبحار بحثا عن مغامرات في الساحل الغربي لإفريقيا.
(…) تجاوزنا الباخرة الصغيرة الراسية فوق المياه، ورأيت وجها يتمشى فوق مؤخرة الباخرة، بينما يتبعه عدد من العبيد، سود البشرة، يمسك أحدهم الدفة، بينما يتحدث آخرون في ما بينهم قرب القمرة.
تعرفنا على المولى عبد العزيز من خلال ملامحه. إلى حدود الأسابيع القليلة الماضية قبل هذا اليوم، كان هو جلالة سلطان المملكة الشريفة. المولى عبد العزيز، سلطان المغرب، أمير المؤمنين، وزعيم المُصدقين.
لا أحد في المدينة تحدث عن قدومه، كان الأمر سريا ومر في صمت. كان المولى عبد العزيز مضطرا إلى قضاء يوم حزين، فوق ظهر باخرة غير مُريحة. وقفز في منتصف الليل إلى شاطئ بعيد عن أعين المتربصين به.
طنجة كانت هي آخر مدينة قبلت بالسلطان الجديد».
كان الدبلوماسيون الأمريكيون يتابعون هذه التطورات، في الوقت ذاته الذي كانت فيه بواخر أمريكية تتجول في البحر الأبيض المتوسط. التقارير تقول إن الأمريكيين كانوا مستعدين للتدخل، في حال ما إن خرجت الأمور عن السيطرة، سيما وأن فرنسا وبريطانيا كانتا تتنافسان بقوة على المغرب، وكانت ألمانيا أيضا تتربص بهما مطالبة بحقها من «كعكة» توزيع النفوذ على دول شمال إفريقيا. فتيل الحرب كان على وشك الاشتعال.
الباخرة «جورجينا».. قصة مقاتلة دخلت التاريخ
في الفترة نفسها لوجود الرئيس روزفلت على رأس اهتمامات الصحافة الأمريكية، التي وصفته مرات كثيرة بأنه مُحدث ثورة صناعة المقاتلات البحرية الأمريكية، ومهندس «ازدهار» ما بين سنتي 1900 و1905، كان المغرب يعيش على إيقاع من التوتر والتقلبات السياسية.
كان الأمريكيون قد خرجوا للتو من أزمة اختطاف المواطن الأمريكي «بيرديكاريس»، والذي ما كان ليُعرف لولا أن الرئيس ثيودور روزفلت، بنى حملته الانتخابية بأكملها على ضرورة إطلاق سراح المواطن الأمريكي المختطف في طنجة، ووصف وقتها روزفلت قضية هذا الأمريكي بأنها مسألة حياة أو موت بالنسبة إليه، وتعهد بأن يضع كل قوات البحرية الأمريكية رهن إشارة عائلة الرهينة الأمريكية، رغم أن الرجل لم يكن مرتبطا بأي عائلة في أمريكا، بل اختار قبل سنوات طويلة الاستقرار بين المغرب وبريطانيا في ذلك الوقت. لكنها الضرورة السياسية التي أملت على «روزفلت» تلك «الفتوى» العسكرية.
وهكذا أصبح منظر البارجات الأمريكية وهي ترسو في المياه المغربية، منظرا عاديا جدا.
لكن ما يُحسب لهذا الرئيس الأمريكي، أنه وضع خدمات سفن أمريكية رهن إشارة المغاربة. ومن جديد، يحكي القنصل الأمريكي «هولت»، الذي كان من بين مهامه استقبال السفن الأمريكية عندما تصل إلى ميناء طنجة، فترة قصيرة بعد مغادرة الرئيس روزفلت للسلطة، ويقول هنا متحدثا عن قصة بارجة أمريكية: كانت تعتبر فخر الحربية الأمريكية، والتي كان روزفلت وراء بنائها وتخصيص ميزانية ضخمة من أموال الأمريكيين لصيانتها، وهي ترسو قرب طنجة، حتى أن السلطان شخصيا جاء لرؤيتها والقيام بجولة داخلها:
«كان الشاطئ خاليا من المغاربة، باستثناء بعض الصيادين الفقراء والبحارة، الذين ينتظرون قدوم السفن ليشتغلوا مرشدين للسياح. لقد تفاجأت عندما رأيتهم يتزاحمون حول المولى عبد العزيز، ويقبلون عباءته ويتمسحون بها، ويغمغمون عبارات ترحيبية.
أسرعنا في اتجاه القارب، وما هي إلا لحظات حتى أصبحنا على ظهر «جورجيا». كان طبيعيا أن يكون المولى عبد العزيز مهتما جدا بتفحص السفينة، لأنها المرة الأولى في حياته التي يرى فيها باخرة حربية. في الحقيقة، كانت الوحيدة التي صعد على متنها. استغرقت الرحلة ساعة، كان صامتا في أغلب اللحظات، كان يصغي جيدا للشروحات التي تقدم له بخصوص تجهيزات وقدرات الباخرة الحربية.
كان يتجول ويتفحص بيده معدات حديدية تزن بضعة أطنان. عندما دخل إلى غرفة المحرك في أسفل السفينة، كان يرفع «الكسا»، وهو اللباس الأبيض الطويل الذي كان يرتديه، لكي لا يتسخ بشحم المحركات.
إنه من الصعب أن تُفاجئ مغربيا، وأعتقد أن عبد العزيز تفاجأ فعلا: «عجوبة.. عجوبة»، هذه العبارة تلخص كل تعليقاته. باستثناء المرة التي سمع فيها هاتف السفينة، وللمرة الأولى، صوت بشر ينبعث من آلة. وضع جلالته السماعة بسرعة وإصرار، وانسحب من الباخرة. قال متعجبا: «الجنون.. ما مزيانش»، كان يقصد الأرواح الشريرة.
كانت تنتظرنا مفاجأة عند الخروج، وجدنا أن الباخرة من بدايتها إلى نهايتها كانت محاطة تماما بالبشر. لا أعرف كيف انتشر خبر وجود السلطان المعزول على متن الباخرة بتلك السرعة. كان هناك ما لا يقل عن ألفي مغربي ينتظرون قدومنا. كانت هناك طريقة واحدة فقط للنزول، وهكذا واجه عبد العزيز الموقف بشجاعة، واخترق جوقة الموسيقى».
عندما كان البحر المتوسط يرمي «النار» بدل الأمواج
الفترة ما بين سنتي 1900 و1906، كانت حافلة بأحداث إما صارت في حكم المسكوت عنها، أو المنسية التي سقطت بحكم أن الأحداث التي تلتها حجبتها وجعلتها تدخل في إطار «التفاصيل».
كان الرئيس الأمريكي روزفلت يعلم جيدا أن منطقة البحر الأبيض المتوسط مهمة جدا لأمريكا. بحكم أن السنوات التي سبقت وصوله إلى الحكم، خصوصا ما بين سنة 1820 إلى حدود 1880، عرفت بداية حضور أمريكي في مضيق جبال طارق، دون أن تحظى الولايات المتحدة بأي نفوذ على الأرض.
يقول التقرير الذي نحن بصدده، إن الولايات المتحدة كانت تتوفر على قوات بحرية، لكن لا تتوفر معها على إدارة فوق اليابسة لتدبير تحركات تلك السفن، وهو ما جعل البحرية الأمريكية وقتها تعاني من صعوبات الاتصال، إلى أن جاء الرئيس روزفلت لكي يعزز الأسطول البحري الأمريكي بمقاتلات حديثة، ويطلق ميزانيات لإنعاش البحث العلمي في الاتصال، لتعزيز تواصل المقاتلات الأمريكية في ما بينها.
كان الأمريكيون سباقين إلى توظيف الرسائل بين السفن، في عهد الرئيس روزفلت. إذ رغم شساعة المسافة بين واشنطن والسفن المنتشرة في المحيطات وفي البحر الأبيض المتوسط، إلا أن التواصل بينها كان قويا مقارنة مع دول أخرى، بينها بريطانيا وفرنسا، واللتان كانتا القوتين الأكثر حضورا في البحر الأبيض المتوسط.
وضع الرئيس خطة خلال السنوات الثلاث الأولى لحكمه، وتعامل بحذر كبير مع أزمة البحر المتوسط سنة 1904، حيث خرجت منها الولايات المتحدة أكثر قوة، لأنها فرضت نفسها إقليميا على بريطانيا التي كانت تعتبر قوة ضاربة وتستثمر إنجازات قرون من السيطرة على المنطقة، فإذا بالرئيس روزفلت يعصف بكل تلك التراكمات التاريخية، ويطلق عهدا جديدا تسيطر عليه القوات الأمريكية.
التقرير يقول إن الرئيس روزفلت راهن كثيرا على الصداقة مع المغرب، لأنه كان يعلم أن سفنه تحتاج إلى إدارة في اليابسة لتدبير تحركات تلك السفن، وفعلا كانت تلك البوارج الأمريكية ترى في شواطئ طنجة، المكان الأكثر أمانا لها لكي تتزود بالمؤونة أو لتحرس مرور السفن التجارية الأمريكية، التي كانت تعاني في السابق مع «الجهاد البحري».
حتى أن الأمريكيين وقتها كانوا يطلقون على البحرية الأمريكية «بحرية روزفلت»، والواضح أنه كان يستحق فعلا ذلك التشريف، بحكم أنه أطلق أعتى قوة عسكرية بحرية في العالم، وما كانت لتتم في الحقيقة لولا أنه استثمر علاقة بلاده مع المغرب، لكي يسيطر على البحر المتوسط.
إذ إن هذا التقرير الذي تناولناه في هذا الملف، أفرد فقرة كاملة تحدث فيها عن سر عبارة «بحرية روزفلت»، وكيف أنه لم يسبق أبدا لأي رئيس أمريكي أن اقترن اسمه بإدارة عسكرية أو حتى سياسية، رغم أن رؤساء آخرين جاؤوا من بعده وقادوا البحرية الأمريكية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكن لا أحد من هؤلاء الرؤساء أو وزراء الدفاع الأمريكيين، كُتب لهم أن تحمل القوات العسكرية البحرية الأمريكية أسماءهم، ووحده الرئيس الأسبق لولايتين، كُتب له هذا الشرف، لكي يطلق اسمه على البحرية الأمريكية.