رهان منظومة «مسار»
عبد الحق الحاج خليفة
عند ظهور نتائج المتعلمين بعد نهاية كل أسدس من كل سنة دراسية، ومنذ تفعيل منظومة «مسار» للتدبير التربوي، يتجدد نقاش واسع بخصوص مدى نجاعة اعتماد التكنولوجيا الحديثة في تدبير قضايا الشأن التعليمي التربوي، إذ في الوقت الذي اعتمدت الوزارة المعنية تفعيل أحد البرامج الذي اصطلحت عليه اسم «مسار»، والذي استهدفت من ورائه تطوير مستوى التدبير لواقع التقويم، في أفق تجاوز الكثير من النواقص والثغرات التي تحول دون تحقيق معياري الصدق والصلاحية من أجل تكافؤ الفرص بين المتعلمين، اعتبر جل الممارسين الميدانيين أن إدماج التكنولوجيات الحديثة في التدبير التربوي، ينبغي أن يتم بموازاة التفكير والانشغال في الآن ذاته بتوفير الشروط الموضوعية من حيث البنيات والتجهيزات والموارد البشرية، التي تيسر تحقيق الأهداف التعليمية والتربوية المتوخاة. واحتكاما للحصيلة التي أفرزتها هذه التقنية الجديدة في تدبير نتائج المتعلمين خلال كل أسدس من العام الدراسي، لم يلاحظ أي تغيير أو تطور للرهانات التي جيء به من أجلها مقارنة مع الطريقة المألوفة التي كان معمولا بها داخل المؤسسات التربوية، إذ لم يتمكن برنامج «مسار» من تحقيق رهانات العقلنة وتكافؤ الفرص، وبالتالي صعوبة الادعاء بنجاحه كآلية ناجعة في تيسير عملية تشخيص واقع المتعلمين أو تقويم مستوى أدائهم. فما هي الحجج التي يبرر بها الميدانيون عدم تفاعلهم مع مثل هذه الحلول الانتقائية، التي لا تلامس الأدواء الحقيقية لمنظومة التربية والتعليم؟
يؤكد هؤلاء على ثلاثة أسباب رئيسية وهي:
1) إن مبادرة اعتماد هذه التقنيات في الحقل التربوي وإن كانت جديدة على الحقل التعليمي التربوي فهي لا تختلف عن المحاولات التي عرفتها حقول مختلفة أخرى كانت سباقة لاعتماد التكنولوجيا الحديثة في تدبير شؤونها، إلا أن ذلك لم يحقق الغايات والأهداف المنتظرة منها، إذ لم يستطع النقل الآلي لها أن يتجاوز المنافع المباشرة الضيقة على المستوى التقني الإداري الإحصائي دونما تحقيق النقلة النوعية من حيث الرهانات الكيفية المحايثة للتقنية من قبيل ترسيخ قيم العقلنة والشفافية والترشيد وجودة الأداء وحسن التدبير واقتصاد الوقت والمال والجهد، وما يفضي إليه كل ذلك من نجاعة وفعالية، وتلكم أهداف ما زالت تلك الحقول السباقة لاعتماد هذه التكنولوجيا بما فيها تلك التي تعرف فيها هذه التقنية انتشارا واسعا، ما زالت تعاني الكثير من العادات السلبية والسيئة التي ترسخت ضمن واقع الأداء الإداري بكل ما يعرفه من أعطاب، إذ لم تستطع تلكم المكاسب الكمية أن تملأ الفراغ الفظيع الناجم عن غياب تلك الأهداف النوعية والتي لا تزال بعيدة المنال بالنظر لما يعترضها من عوائق ذاتية وموضوعية، كعادات سيئة كانت وما زالت متفشية، سواء قبل استعمال هذه التكنولوجيا أو بعد استعمالها، إن لم تكن قد زادت انتشارا واستفحالا رغم الإمكانيات الباهرة التي يتيحها الحاسوب.
2) إن واقع الخصاص الكبير والانتظارات الكثيرة التي يتوقف عليها الحقل التعليمي التربوي، أصبحت تشكل واقعا يتعذر إن لم يكن من المستحيل القفز عليه أو تجاهله أثناء التفكير في الاستفادة من مستجدات العصر وتحدياته. انتظارات أصبحت تشكل بالنظر إلى طبيعتها وما أنتجته بفعل تراكمها خلال عقود من السنين عائقا موضوعيا ينتصب أمام كل تفكير جدي في موضوع الاستعمال الوظيفي للتكنولوجيا الحديثة في تدبير مشكلات التعليم، بل إنها الانتظارات التي يجوز نعتها باستحقاقات ما قبل تكنولوجيا التربية والتعليم، ويعد الانشغال بها والتفكير الجاد في أمر تدبيرها وتسويتها في المدى المنظور، المدخل الطبيعي والأرضية الصلبة التي على أساسها تبنى عمليات التفكير في كيفيات دعم منظومتنا التربوية التعليمية.
3) إن الحصيلة الأولية بخصوص تقييم مدى قدرة برنامج «مسار» على تحقيق الرهانات التي جيء به من أجلها من قبيل الشفافية وتكافؤ الفرص، هي حصيلة لا تشجع على الاعتقاد في قدرة هذا البرنامج على تحقيق تلكم الرهانات. لقد كشفت نتائج المتعلمين أن استمرار الظروف والشروط، التي يتم ضمنها التعليم والتقويم لا تساعد على اعتماد هذه النتائج كمعيار صالح لتشخيص واقعهم، ذلك أن استمرار الأداء التربوي ضمن ما يتحكم في العملية التعليمية من إكراهات التشريع وظروف التعليم ومطالب التقويم، وعلاقة ذلك كله بواقع المتعلمين وما يشتهر به هذا الواقع مما يصطلح عليه بالتدني المطرد للمستوى، قد وضع الممارسين الميدانيين أمام السؤال: ما مدى مشروعية اعتماد هذه الصرامة التقنية ضمن الحقل التربوي، مع ما يترتب على ذلك من تحميل المعلمين والمتعلمين وحدهم المسؤولية المباشرة عن ضعف وتدني المستوى، بالنظر إلى ما كرسته الخريطة المدرسية خلال عقود وطيلة الحياة الدراسية للمتعلمين من الدفع بهم وتنقيلهم إلى المستوى الأعلى ولو بمعدلات متدنية، وما يمنحه التشريع من عطاء مجاني-مكون المراقبة المستمرة في الامتحانات الإشهادية نموذجا- وما يترتب على ذلك من فروق شاسعة في تقويم إجابات المتعلمين بين دعاة الصرامة من أجل تعرية الواقع المرير للمتعلمين من جهة، وبين دعاة المرونة الذين يأخذون بعين الاعتبار ما يمكن أن يترتب عن الصرامة – التي قد تتحول في نظرهم إلى شطط- من تداعيات على أكثر من صعيد؟
هذه العوامل الثلاثة تشكل جزءا من الأسباب الكثيرة التي يتعذر معها الحديث عن إصلاح المنظومة التربوية، من خلال إعطاء الأولوية لعقلنة عملية التقويم باستعمال ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة.
لكن ألا يمكن أن يؤدي الأخذ بهذه الحجج الوجيهة بخصوص معوقات الدعوة الاستعجالية للاستعمال الوظيفي للتكنولوجيا الحديثة إلى الوقوع أمام عوائق جديدة، جراء ما يترتب عن تأجيل الانفتاح والتأخر في التفاعل مع مستجدات العصر، فنجد أنفسنا أمام استحقاقات مزدوجة، فنصبح إذاك أمام واقع مركب من الاستحقاقات؟ بمعنى ألا يؤدي الانكباب على تدبير المعوقات التقليدية والمألوفة، كأولوية ينبغي أن ترصد لها كل الإمكانات والجهود، إلى تعميق الهوة بين واقعنا التعليمي المنشغل بتدبير معضلاته التقليدية وبين المعايير الكونية ذات الصلة بعولمة التربية أو التربية المعولمة؟ وهل تنفع أمام السرعة الكاسحة التي يسير بها قطار العولمة حتى أكثر التبريرات مشروعية وإقناعا، من قبيل الحاجة الماسة إلى الانغلاق، من أجل التفرغ لإنجاز مهمات وتسوية استحقاقات ما قبل التكنولوجيات الحديثة، باعتبارها الأرضية الصالحة التي يمكن ضمنها أن تجد هذه التقنيات تربتها الخصبة؟
إن الأمر يحتاج إلى عمل دؤوب على واجهتين متوازيتين تسيران بنفس السرعة والقناعة والحماس، بمعنى الفعل في الواقع لردم هوة الخصاص المتراكم في أفق توفير الفضاء التربوي الملائم لبناء الإنسان القادر على مواجهة تحديات العصر من جهة، والعمل من جهة ثانية على الانفتاح الحواري على التجارب لاستقبال هذه المستجدات التكنولوجية، التي تروم تطوير وتجويد مستوى التدبير والأداء. وهو ما يعني أن إدخال تكنولوجيا التربية والتعليم إلى الفضاء المدرسي ينبغي أن يتم بموازاة التفكير والانشغال في الآن ذاته بتوفير الشروط الموضوعية من حيث البنيات والتجهيزات والموارد البشرية، التي تيسر تحقيق الأهداف التعليمية التربوية المتوخاة، وغير ذلك لن يكون الانشغال بمكننة التقويم مع غياب الاهتمام بالواقع المتردي للتعليم، إلا هدر للإمكانات والجهود.