شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

رهان اقتصاد الرعاية

 

 

خالد فتحي

 

اقتصاد الرعاية قطاع واعد آخذ في النمو بسرعة في شتى أنحاء العالم، فالحاجة إليه نمت أكثر فأكثر مع تعقد الحياة العصرية، ورسوخ البناء الخانق للأسرة النووية، وملاحظتنا هذا الاضطرار الدائم للإنسان أيا كان جنسه أو عمره إلى الاعتماد خلال مرحلة من مراحل دورة الحياة على غيره في تدبير أموره اليومية، وكذلك بسبب خروج النساء للحياة العامة، طلبا للمساواة التامة مع الرجل، مما كشف الخصاص للعيان، وأبرز الدور الحيوي للقطاع في إمكانية توظيفه لتثبيت الصمود والرفاه الأسرى والمجتمعي.

كل هذه العوامل تبرز أن المغرب قد أحسن مرة أخرى باحتضانه للمؤتمر الدولي الأول حول هذا الموضوع المهم بمدينة سلا، فهذا سبق سيسجل له في المنطقتين العربية والإفريقية، ولربما سيجعل منه مرجعا في هذا الميدان بوسعه أن يغذي برامج وخططا في دول كثيرة، خصوصا وأن هذه الفعالية الدولية التي تمت تحت الرعاية السامية لجلالة الملك لتعبر أبلغ تعبير عن انخراط المملكة في هذا الورش الوطني البالغ الأهمية ذي البعد والاهتمام الدولي اللافتين.

يتعلق الأمر كما ظهر ذلك جليا من خلال أنشطة المؤتمر بتحول عاجل ينبغي تفعيله داخل كل المجتمعات في النظرة إلى أعمال ذات علاقة بتعهد الآخرين والعناية بهم… أعمال كانت دوما موجودة عبر تاريخ الإنسانية، لكنها ظلت وما زالت تقدم بشكل غير مهيكل، وغالبا ما تتحمل وزرها النساء دونما أجر وبغير اعتراف حقيقي لهن أحيانا كثيرة بهذا المجهود الجبار. زد على ذلك أن هذه الخدمات لا تخضع لتكوين مهني ييسر أداءها بشكل أنجع، وبالتالي استمر عدم تثمينها التثمين الحقيقي اللائق بها.

مفهوم اقتصاد الرعاية الذي ما زال يبحث عن تعريفه الدقيق، وعن تحديد النقطة التي يبدأ منها وتلك التي ينتهي عندها، وتعيين باقة الخدمات التي تدخل في نطاقه، وهو مفهوم تم سنه أو سكه بالأساس لأجل لفت الانتباه لهذه الاختلالات، والنظر لها بواقعية، وبراغماتية، ثم تصحيحها بغرض جعل هذه الخدمات رافعة أخرى للاقتصاد.

وتشير الأرقام إلى أننا سنواجه في المستقبل القريب حاجة ملحة لخدمات الرعاية هاته لدى ملياري نسمة من ساكنة العالم، وأنها ستتوزع بين الصحة، والتعليم والمعاقين، والمسنين، والدعم المدرسي ودمج الأشخاص المنعزلين… مما سيجعل من توفيرها وتأطيرها تحديا لكل المجتمعات والاقتصاديات لن تلبث أن تتفاقم حدته يوما بعد يوم جراء استفحال الشيخوخة، وتضافر تداعيات الأزمات الاقتصادية والأمنية والمناخية، وذلك كله في سياق يتسم بالتغير الشديد للقيم والسلوكيات.

إنه مؤتمر أتى في حينه بالنسبة لنا نحن المغاربة، وخصوصا وأننا سنستقبل إحصاء عاما للسكان من المنتظر أن يمدنا بلوحة حقيقية لحالة المجتمع المغربي. وأستطيع من الآن التكهن بأنها ستخبرنا، بالنسب وبالمعطيات التي لا تكذب، بأن مجتمعنا يشيخ بشكل مهول، والأسرة تتحطم لأسباب كثيرة، والبطالة تضرب في أوساط الشباب والنساء، والتضامن ينقرض، ودواعي الفردانية تتصاعد…

هذه المخاطر الجدية تفرض علينا أن نولي مخططاتنا شطر هذا النوع من الاقتصاد الذي قال عنه الخبراء الذين استضافهم المؤتمر إنه متنفس وأنه يأتي لنجدة الاقتصاد العالمي بعد التباطؤ الذي سببته كورونا وأوكرانيا، من خلال ملايين مناصب العمل التي بمقدوره خلقها، وتأثيره الإيجابي المفترض على جودة الحياة، واستقرار الأسر وحمايتها من غائلة التفكك، وكذا رفع إنتاجية المواطنين. فلا تنمية اقتصادية دون تنمية اجتماعية، ولا تنمية اجتماعية دون حماية اجتماعية ودون خدمات واقتصاد رعاية.

والمفترض الآن أن خبراءنا صاروا مدعوين بإشراف من وزارة التضامن والأسرة إلى قياس وحساب حجم هذا الاقتصاد، واستكشاف الإمكانيات الهائلة التي يختزنها من مناصب الشغل، والتي يتعين أن نجعلها مرئية، وخصوصا وأنها تمكين إضافي للنساء اللواتي يملن عادة بشكل أكبر لهذه الفئة من الأعمال، لكنهن سيؤدينها هذه المرة بشكل مؤسساتي سواء بالقطاع العام أو الخاص، مما سيضمن لهن بالخصوص ذاك المدخول وتلك الكرامة التي يجب أن تتوفر لهذا النوع من العاملين، ويحارب الفقر في صفوفهن، ويدمجهن من خلال المساهمة في الحماية الاجتماعية التي ننشدها الآن للجميع.

ولذلك فإن برلماننا مدعو هو أيضا إلى أن لا ينتظر مشاريع قوانين من الحكومة، بل أن يبادر ويواكب هذا الورش بتشريعات تؤطر هذه المهن الجديدة التي سترى النور، والتي ينبغي أن يولي خلال إعدادها كل الاعتبار لسياقاتنا الثقافية والاجتماعية، اذ ينبغي أن لا يغرب عن بالنا أن هذه المهن تؤدى داخل الأسرة، وبالتالي هي نشاط اقتصادي داخل مؤسسة ذات طابع إنساني لها تقاليدها وطبيعتها المركبة. وبالتالي ينبغي أن يكون اقتصاد الرعاية في خدمة هذه المؤسسة لحمايتها وتقديم جرعة الحياة لها لإصلاحها حتى لا يتحول بمرور الأيام إلى مجرد عملية بيع للعمل الإنساني تكتسح بها السوق بـ “ديناميتها العمياء” تنظيما اجتماعيا حيويا كالأسرة. فاقتصاد الرعاية هو اقتصاد يختلف عن غيره بكونه اقتصادا ينبغي له وجوبا أن يظل مفعما بالإنسانية. ومن هنا فإنه ينبغي علينا أن نحدد بدقة خريطة مهن الرعاية، وأن نحدد ما يعود للدولة وما يعود للأسر من هذا الاقتصاد، وما ينبغي أن ينهض به القطاع العام وما يستحسن تركه للقطاع الخاص، وبداية وقبل كل شيء أن نعين ما هو طيف الخدمات التي تدخل في دائرة هذا الاقتصاد.

الفلسفة واحدة ولكن المقاربات تختلف وتتشابه حسب البيئات التي سيتم فيها ترسيم هذا الاقتصاد الذي نستفيد منه جميعا دون أن نحس منذ لحظة التخصيب في الرحم إلى نهاية العمر.

ولذلك علينا أن نهتدي إلى مقاربتنا وأن نؤسس نمطنا الخاص بنا لاقتصاد الرعاية، إذ ليس هناك نمط واحد ولا شكل واحد للرعاية، ولا سياسات عمومية موحدة كما أبرز وزراء الأسرة الحاضرون بالمؤتمر، فبينما يسعى الغرب إلى الاعتماد أكثر على الروبوتيك لمواجهة ندرة مهنيي الرعاية وهجرة الجنوبيين إليه معا، نواجه نحن شح الموارد البشرية الذي يزحف إلينا وندرة الاعتمادات المالية، وعقليات نمطية لا تستوعب التغيرات الجارية ديمغرافيا وقيميا وتكنولوجيا.

زرع اقتصاد الرعاية يتطلب الاعتراف به أولا، وهذا يقتضي الخروج به من الهواية والتطوع إلى الاحتراف والمهنية. كما يستدعي منا لصق مبادئه على مبادئ الحماية الاجتماعية كالعمومية والعدالة والمساواة حتى يكون موجها لكل الفئات وبنفس الجودة بحيث لا نتخلى عن أحد ولا نترك رجلا أو امرأة ولا طفلا أو شيخا على الهامش.

يجب أن نبدع قانونا إطارا لهذا الاقتصاد جاذبا لمن يرون أنفسهم في هذه المهن بحيث نجعل منه دعامة لاقتصادنا ولدولتنا الاجتماعية ينهض بها عاملون وعاملات ممن اختاروا عن حب هذا المجال الذي يتطلب الجدية والخبرة والعاطفة معا.

إننا نتطلع إلى أن يشكل هذا المؤتمر انطلاقة للمغرب لأجل ارساء هذا القطاع بشكل مدمج ومتضامن يعكس التضامن بين فئات واجيال المجتمع، وهذا ما يفرض علينا شحذ قريحتنا التشريعيية والتنظيرية لإبداع أفكار من خارج الصندوق تعبر عن حداثتنا واصالتنا في نفس الآن وعن تماسكنا الاجتماعي، وفي مثل ذلك فليتنافس المتنافسون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى