شوف تشوف

الرأي

رمضان بعين طفلة

جهاد بريكي
في حي بسيط في مدينة بسيطة كنت أركض نحو البيت عائدة من مدرستي الصغيرة، اقترب أذان المغرب والناس يمشون بخطى خفيفة ومستعجلة، يحملون ما نسوا ابتياعه صباحا أو ما تثاقلوا للخروج بحثا عنه. أدخل بيتنا الصغير فتخترق أنفي رائحة تجبرني على الابتسام، حساء يتراقص فوق النار ورغائف اللحم المفروم تكتسي لونا ذهبيا فوق مقلاة تكبرني بعشرة أعوام، سميكة وصلبة وثقيلة. كلما لمحت أمي وضعتها فوق النار أعرف أن شيئا شهيا يتم إعداده، فأستعد. البيت هادئ فالكل قد أنهكه الصوم، وأراحته العبادة. طفلة يافعة كنت أصوم عندما أشبع وآكل متعللة بطفولتي التي لا تطيق الجوع. ألقي نظرة على أخي الصغير الذي يراقبني بتمعن كلما عدت من المدرسة، كأنه يراني للوهلة الأولى في حياته، لا أفهم إن كان يلومني لأني غبت عنه اليوم بطوله أم أنها نظرات عادية لا هدف من ورائها.
بحركة خفيفة ألقي حقيبتي المثقلة بالكتب والأحلام وأخطو خطوات واثقة نحو مختبر العمليات، أدخل مشرعة العينين والأنف، أراقب الطناجر والأطباق والألوان، أستنشق الروائح المختلفة وأحاول التعرف على مصدرها، بين يدي أمي قدر كبير به حبات طماطم قد سلقت وأزيل جلدها، أفهم أن الأمر يتعلق بحساء الحريرة، فأسأل أسئلة غريبة لا يشغل أحد باله بالإجابة عليها، من اخترع الحريرة، وكيف تجرأت أول امرأة أعدتها على دمج كل هذه العناصر، ومن قرر للمرة الأولى إضافة ماء الزهر إلى الحليب وارتشافه عند الإفطار!؟ أسئلة تنتهي بأن ترسلني أمي على وجه السرعة لبقال الحي، فسؤالي قد ذكرها بحاجتها لماء الزهر والبيض وقليل من النعناع. أمد يدا صغيرة بخفة لص ماهر فأنتزع رغيفا ساخنا من وسط صحن كبير وأنسحب بهدوء.
أمشي بسرعة شيئا ما فلا رغبة لي في عتاب ولوم مسائي قد ينتهي بشجار وبكاء، أمي تكره التأخير وأنا أكره عتابها، والأسلم لي أن أسرع.
نلتف أنا وإخوتي حول مائدة كقطط فضولية، نحاول اكتشاف الجديد وتحديد الألذ. نغرف الحساء ونأكل بمرح ما أعد بحب. بينما يتراقص مهرجان يحاولان جاهدين إضحاكنا على شاشة التلفاز، يكثر استجداء الضحك في شهر الصوم. لا أضحك، أنتظر موعد مسلسلي التاريخي الدامي، كنت طفلة واقعة في غرام القعقاع. فارس جاء من بلاد بعيدة لينتقم، بلغة عربية فصيحة وصوت جهوري ووشاح أسود، القعقاع كان النسخة العربية للرجل الوطواط، رغم أن نوايا بطلي العربي كانت سيئة ودافع الانتقام كان يضرم نار الشر في روحه، إلا أن كل ذلك لم يمنعه من سلب لبي. الفروسية والصوت الفخم واللغة الرزينة، كلها أسباب جعلت الطفلة المولوعة بتراث أجدادها تنتظر المسلسل كانتظار صوفي لرؤية شيخه في منام يبشره. أتابع الأحداث وأتخيلني فارسة تمتطي حصانا وتركض في أثر غريمها تطلب الحرب، والحب. لا أكاد أنتشي بحلمي الصغير حتى تنتهي حلقة اليوم ويعيدني إشهار مساحيق الصابون وفوط النساء الصحية إلى الواقع الذي يعج برائحة البيض المسلوق والشاي الساخن.
نصل المسجد بعد تلقيني وصايا التراويح الخمس، يمنع الكلام، يمنع الركض، يمنع الضحك، يمنع تغيير المكان، يمنع الخروج. أدخل بنية الالتزام بالوصايا، وبقناعة خرقها مع أول فرصة متاحة. أصطدم بالمكلفة بالمسجد أو مديرته أو صاحبته، لا أعلم يقينا دورها هناك، كل ما أدركه جيدا أنها شخص خطر ويجدر بي تجنبه حتى لا تقدم شكواها للسلطة العليا، أمي، فأكون قد جنيت على نفسي كبراقش. أجلس بعد ركعتي التحية وأتحسس الوضع، أحاول معرفة عدد الأطفال والتحقق من مظهرهم، هل يدل على الخنوع أو الجموح. هل هناك من تراقبني من النساء العواجيز اللواتي يشغلن الأماكن الأمامية كل يوم، حتى أني فكرت يوما في سؤال إحداهن، إن كن يفطرن في المسجد أم أننا نحن من نتأخر دائما!؟
يشرع إمام شاب يرتدي الأبيض من رأسه لأخمص قدميه كعريس سعيد، أعرف ذلك جيدا فأنا التي تسترق النظر دائما إلى مسجد الرجال، في الصلاة. تستقيم الصفوف وتصمت الأفواه وتستقر الأرواح، جسمي الصغير يغرق داخل الأجساد الأنثوية المختلفة، والروائح المتباينة ابتداء بعطور باريسية وانتهاء بثوم العطار. ذهني يعاركني فيأبى الخشوع، ويغويني باللعب، والهرب، فأنسل من بين الصفوف مدركة تماما أن أمي تشعر بانسحابي المهين وانضمامي لمعترك الفتيات الخارجات عن الصف. أخرق الوصايا الخمس. يسلم الإمام فأبحث عن أمي بإلحاح يغلفني العرق وأتربة حديقة المسجد. أمسك يدها متعبة منهكة لا أريد شيئا سوى الإحساس بقربها وشم رائحة جلبابها، أعود نحوها كمهرة طائشة أنهكتها الحرية وشساعة الحقول، نتبادل نظرات عتاب واعتذار. تسامحني بأن تضم يدي الصغيرة داخل كفها كضمة الرحم فألتصق بها ونعود إلى البيت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى