شوف تشوف

الرأيالرئيسية

رمضاء أمريكا ونار الصين

مالك التريكي

أثناء الحرب الباردة، من 1945 حتى 1990، كان عدم الانحياز موقفا مطلوبا مبدئيا، ولكنه لم يكن ميسورا عمليا. فقد كانت الدول المستقلة حديثا، التي جمعت آنذاك تحت اسم فضفاض، «العالم الثالث» تعد الحياد هو الموقف الطبيعي من صراع غربي ـ سوفياتي لا مصنع للمستعمرات السابقة فيه ولا دبابة. وكانت حركة عدم الانحياز، منذ مؤتمر باندونغ 1955، تعبيرا عن طموح الدول الأفرو ـ آسيوية إلى أن تصير فاعلة في السياسة العالمية ليس بشروط الاستعمار الآفل، بل على أسس تحررية تترجم قيمها وتحفظ مصالحها.
ولكن حياد دول العالم الثالث كان حيادا اسميا فقط، إلا أنه لم يكن أحد ليجرؤ على المجاهرة بهذه الحقيقة المحرجة. ولهذا فقد فاجأ بورقيبة الصحافة العالمية عندما أعلن في شتنبر 1973، في المؤتمر الرابع لحركة عدم الانحياز في الجزائر (الذي طالبت فيه الدول الأعضاء بنظام اقتصادي عالمي جديد) أن أعضاء حركة عدم الانحياز يعدون بالعشرات، أما الحقيقة فهي أن جميع دول العالم منحازة إلا اثنتين فقط: أمريكا والاتحاد السوفياتي!
وبقدر ما كان هذا التوصيف (أي استحالة الحياد عمليا) صحيحا في الماضي، في الحرب الباردة الأولى، فإنه صحيح اليوم في الحرب الباردة الجديدة. لكن الغريب أن هنالك من يتوهم أن القطب الصاعد (الصيني أو الصيني- الروسي-الإيراني الخ) أفضل أو أرحم من القطب الأمريكي، على كثرة مساوئه وجرائمه.
وليس من جديد في القول بأن الولايات المتحدة لم تعد تتفرد بالهيمنة على العالم. فقد كان تشارلز كروثامر أحد أكثر الكتاب تبصرا عندما بادر منذ عام 1990، بتسمية الفترة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة «البرهة الأحادية». سماها كذلك منذ بدايتها، فصدقته الأحداث وسرعان ما تبين أن البرهة إنما كانت لحظة عابرة. وقد كتبنا هنا عام 2001 عن دراسة أجرتها وزارة الخارجية البريطانية توقعت أن الهيمنة الأمريكية لن تتجاوز أفق عام 2030. كما كتبنا عام 2008 عن «ما بعد العالم الأمريكي» (أو عالم ما بعد أمريكا) الكتاب الذي أصدره فريد زكرياء، وألقى بشأنه هنا في كلية لندن للعلوم الاقتصادية والسياسية، أل أس إي، محاضرة أخبرنا في مستهلها أن والده أتى من الهند للدراسة في الكلية عام 1947، رأسا بعيد الاستقلال. ولكن رغم أن ليس في الأمر من جديد، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا وتمدد ميليشيا فاغنر في بعض البلاد الإفريقية، وتواطؤ الصين مع روسيا على كل شيء طالما أنه ضد المصالح الغربية، كل ذلك جدد لدى كثير من العرب أماني وأوهاما تشبه أوهام رمي إسرائيل في البحر (قبل عام 1967). رغم أن خبر تراجع الهيمنة الأمريكية ليس جديدا، فإن كثيرا من التعليقات العربية ما تنفك تعلنه كل يوم، بل تزف بشراه بنزعة انتصارية ونبرة ثأرية، كأن الذي سيخلف أمريكا في الهيمنة دولة، أو دول عربية أو إسلامية، أو كأن المهيمن الجديد مساند لحقوق العرب والمسلمين، أو متفهم لأوضاعهم أو حتى مكترث بشأنهم.
والحقيقة التي يغفل عنها بعض العرب من المصفقين لصعود الصين، الفرحين بالغزو الروسي لأوكرانيا وبتمدد الميليشيا الروسية في إفريقيا، الشاكرين لنظام بوتين إنقاذه نظام سفاح دمشق، هي التالية: أن العالم الذي تسعى الصين إلى إنشائه ليس نظام تعدد الأقطاب الذي كانت دول العالم الثالث، وحتى أوروبا، تطالب به منذ نهاية التسعينيات بديلا للثنائية، ثم للأحادية، القطبية. بل إن الصين تسعى إلى عالم تكون فيه هي المهيمنة، بالخداع كلما أمكن وبالقوة إن لزم (وجميع جيرانها اليوم من تايوان إلى اليابان وفيتنام فالفلبين، الخ، في فزع من مناوراتها وتحرشاتها) وبما عرف عنها من مكيافيلية صفيقة ووطء لحقوق الإنسان بالأقدام واضطهاد لملايين من المسلمين، وتوسيع لنظام المراقبة الإلكترونية لحركات المواطنين وسكناتهم، إلى درجة حولت الصين إلى مستعمرة عقاب هي أصدق تحقيق لنبوءة «الأخ الأكبر» في رواية أورويل.
ومن أقوى الأدلة على أن المتعلمين ليسوا أقدر من سواهم على توقي ضلال الانسياق خلف الأماني والأوهام، أن أستاذة جامعية ذكرت أخيرا أن تسعة أعشار الطلاب في تونس متعاطفون مع روسيا ضد أوكرانيا! والسبب أن الأكثرية الشعبية في بلداننا لا تدرك أن الاختيار (الاضطراري!) ليس بين أخيار وأشرار، بل إنه اختيار بين السيئ (بالنسبة إلى قيمنا ومصالحنا) والأسوأ. والحقيقة ساطعة: نظاما الاستبداد الصيني والروسي هما أسوأ من الأنظمة الديمقراطية الغربية، على كثرة مساوئها وجرائمها.

نافذة:
هنالك من يتوهم أن القطب الصاعد الصيني أو الصيني- الروسي- الإيراني الخ أفضل أو أرحم من القطب الأمريكي على كثرة مساوئه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى