رضا اكديرة.. الوزير عاشق المسرح الذي حاول وضع التلفزيون في جيبه
ذكريات التلفزيون المغربي المنسية
تحويل نشرة الأخبار على التلفزيون إلى موعد مغربي مقدس، مشروع بدأته وزارة الداخلية المغربية، وكان وقتها الوزير عبد الرحمن الخطيب، شقيق الدكتور عبد الكريم الخطيب، هو الوزير المشرف عليها، فيما كان أحمد رضا اكديرة وزيرا للخارجية، وأحمد باحنيني وزيرا أول.
هذه الحكومة كانت تضع قطاع الإعلام بين يدي وزير من محيط الملك الراحل الحسن الثاني، ويتعلق الأمر بالوزير حدو الشيكر. هذا الأخير سيصبح وزيرا للداخلية لاحقا، وسيكون مُجبرا بدوره على التعامل مع التلفزيون من بوابة الإشراف على تحركات العمال، حيث كانت التعيينات تُبث على نشرات التلفزيون قبل حتى أن يتم إخبار المعنيين بها بشكل شخصي. وقد حدث هذا مرات كثيرة في ستينيات القرن الماضي.
نحن إذن في أواخر سنة 1963. تم اعتماد دستور للمملكة، وافتتح البرلمان، بعد صيف عصيب جدا عرف اعتقالات في صفوف الاتحاديين بمن فيهم عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري، فيما كان المهدي بن بركة في الخارج. هذه الاعتقالات تمت في إطار ملف مؤامرة يوليوز الشهيرة، حيث تجند الإعلام الرسمي لتقديم الملف على أنه تفكيك لخلية إرهابية وليس لحزب سياسي عارض الاستفتاء على الدستور وأعلن مقاطعته له، واكتسح أعضاؤه الانتخابات البرلمانية، وهزموا جبهة «الفديك» التي أسسها أحمد رضا اكديرة.
الجبهة أسسها اكديرة في مارس 1963، أي قبل الانتخابات وقبل اعتقالات الاتحاديين. لقد كان الإعلام في جيب أحمد رضا اكديرة، خصوصا وأنه كان وزيرا سابقا للإعلام في حكومة بلافريج سنة 1958. وكان التحدي الذي وضعه بينه وبين نفسه، أن يسيطر على التلفزيون.
تلفزيون في جيب الوزير
قام أحمد رضا اكديرة بتأسيس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية «الفديك» وجمع فيها نخبة من الأعيان والأثرياء المغاربة. كان هؤلاء يرددون أنهم سوف يربحون الانتخابات بدون مشاكل، لكنهم في الحقيقة واجهوا معارضة سياسية كبيرة من طرف الاتحاديين. لذلك عاقبهم اكديرة، الوزير الذي كانت صلاحياته أكبر من صلاحيات وزير بكثير، وقام باستغلال التلفزيون لكي يقدم الاتحاديين ومن يدور في فلكهم على أنهم مجرمون.
صديقه، حدو الشيكر الذي كان مكلفا بقطاع الإعلام أواخر سنة 1963 في حكومة باحنيني، لم يكن ليعارض توجه اكديرة، وهكذا تحولت نشرات التلفزيون إلى تقارير تضرب في المعارضة الاتحادية التي كان جل أفرادها في السجن على خلفية قضية مؤامرة يوليوز. بل وأطلقت مذكرات بحث عن شيخ العرب وأسماء أخرى من قدماء المقاومة، وأعلن بلاغ الأمن الذي تلاه مذيع نشرة الأخبار في التلفزيون، من استوديو عين الشق، أن الأمر يتعلق بمجرمين خطيرين مسلحين. لكن أصدقاءهم من قدماء المقاومة كانوا يؤمنون بأن رفاقهم لم يكونوا كذلك، وإنما كانوا يريدون تصفية من أسموهم «الخونة» الذين يريدون سرقة المغرب من المغاربة.
استُعمل التلفزيون إذن في هذه الدعاية الأمنية، وكان خريف سنة 1963 مناسبة لكي يتقوى محتوى التلفزيون قليلا، خصوصا وأنه كان قد أطفأ شمعته الأولى ويتجه في اتجاه تقوية شبكة البث لكي تصل إلى أبعد الأقاليم عن بناية مسرح محمد الخامس واستوديو عين الشق الذي سوف يتحول مع الوقت إلى مقر «تاريخي» للتلفزة المغربية.
مسرحي بربطة عنق
كان أحمد رضا اكديرة يعرف جيدا أهمية التلفزيون. على عكس وزراء آخرين، كان اكديرة يتوفر على حس فني لا يعرفه الكثيرون. إذ إنه في سنوات طفولته المبكرة في مدينة سلا، كان يتمرن مع أبناء حيه على المسرحيات باللغة الفرنسية، وكانت لديه مهارات في التشخيص والإلقاء، صقلها أكثر عندما درس المحاماة، إذ إن مرافعاته، وهو صديق لولي العهد الأمير مولاي الحسن في خمسينيات القرن الماضي، كانت عبارة عن «مونولوغ» مسرحي مُتقن. وعندما تأسس التلفزيون، كان اكديرة من أوائل الوزراء والشخصيات القادمة من القصر الملكي، التي تزور التلفزيون باستمرار.
كان اكديرة عند دخوله إلى مقر مسرح محمد الخامس لتفقد أجواء التصوير يقدم ملاحظات في الديكور ويطلب من التقنيين تغيير الإضاءة بل ويتدخل أحيانا حتى في ألوان الزهور التي كانت توضع خلف المقدمين أو الممثلين في المسرحيات التي سوف يشاهدها المغاربة. يقول المصدر الذي تحدثنا إليه في «الأخبار» إن ملاحظات رضا اكديرة بشأن الزهور كانت تثير ضحك بعض التقنيين الذين تلقوا تكوينا في فرنسا، لأن البث أساسا كان بالأبيض والأسود.
لكن ما غاب عنهم، أن اكديرة كان يفهم في الفن المسرحي ومارسه في شبابه، وكان ينظر إلى ركح المسرح بعين ممثل مسرحي وليس بعين «الكاميرا» التي لم تكن تلتقط الألوان.
بدأ العاملون في التلفزيون يعتادون على دخول رضا اكديرة إلى بناية مسرح محمد الخامس بدون موعد أو سابق إخبار، وأصبح وجوده مألوفا.
وبعد انتخابات 1963 صار وجوده يثير الأقاويل. فقد أصبح اكديرة بعد تأسيس «الفديك» أكبر من وزير، بل صاحب مشروع سياسي يدعمه القصر، فقد كان يشاع وقتها أن حزبه هو «حزب القصر».
كيف كان يتعامل اكديرة مع العاملين في التلفزيون؟
هناك أشخاص عملوا في التلفزيون ما بين سنوات 1962 و1970، لا يزالون يتذكرون كيف أن رضا اكديرة كان يجر كرسيه، وهو وزير للداخلية سنة 1964، ويجلس إلى جانب مخرج برنامج حواري، قصته تستحق فعلا أن تُروى، وقد عاش الإعلامي المغربي الكبير بن ددوش تفاصيلها ورواها في مذكراته «رحلة حياتي مع الميكروفون»، حيث كان اكديرة يتابع البرنامج الحواري الذي يجري تصويره أمامه، ويأمر المُخرج باختيار الزاوية والكاميرا التي تبث على المباشر إلى المغاربة مجريات الحوار السياسي الأول من نوعه في المغرب، والذي استضاف وزيرين، الأول من تيار اكديرة والآخر من خارج حزبه.
في ذلك اليوم، اتضح الهدف من زيارات اكديرة المتكررة إلى مقر التلفزيون، إذ إنه كان يريد السيطرة على هذا الجهاز واستعماله لصالح أهداف حزبه السياسي.