رسوب في امتحان التأطير الحزبي
لماذا استأثر الجدل حول نتائج انتخابات البلديات والجهات بحيز أكبر، على رغم محدودية أبعادها السياسية، على مستوى تجاذب المواقع بين الأغلبية والمعارضة؟ جواب ذلك أن التصاقها بالواقع المحلي، أي بديمقراطية الأرض ذات العلاقة المباشرة بانشغالات المواطنين، دفع في اتجاه تعميق الوعي بأهمية الخيار المحلي في التنمية.
إذا كان الرأي العام في انشغالاته اليومية لا يعير كثير اهتمام لصراع الأفكار والنظريات، إلا بالقدر الذي يعاين انعكاساتها على واقعه اليومي. فإن ملامسة الهواجس المحلية للمواطنين في تدبير شؤونهم وتنظيم حياتهم، مكن الديمقراطية المحلية من ارتداء أهمية أكبر. ففي الديمقراطيات العريقة ارتبطت المنافسات على عموديات العواصم ومراكز الثقل الصناعي والتجاري والاقتصادي بأشد أشواط المعارك السياسية. وليس صحيحا أن نظرية الكم تغلب على النوعية في هكذا تجارب.
بيد أنه يتعين الانتباه إلى أن أي تقسيم تعسفي أو استعلائي لمواقع النفوذ الحزبي في الحواضر والأرياف، يحمل مخاطر حقيقية، فقد عانى المغرب طويلا من نظرية التمييز بين مناطقه النافعة وغير النافعة، وأدى ذلك في سياق مضاعفات سلبية إلى إذكاء نزعة الفوارق بين الفئات والمجالات، ولم يعد مستساغا تقسيم مراكز النفوذ السياسي بين المدن والأرياف، إلا بما يدفع إلى تقوية القوى الاقتراحية والعملية التي تكفل إعادة بناء التوازن الاجتماعي.
لا يتعلق الأمر باحتساب درجات ميل الناخبين لدعم هذا الحزب أو ذاك، ولولا أن الخيار الوحدوي في إطار التعددية، صان الوجود المغربي من أشكال العصبية والتفتت، لما جاء التنظيم الجهوي الذي يُنظر إليه كذروة التوزيع الملائم لجهود التنمية، من خلال استشعار حاجيات كافة المناطق والجهات.
سيكون على السلطة التنفيذية تسريع وتيرة إصدار القوانين التطبيقية والتنظيمية ذات الصلة بتفعيل الخيار الجهوي، بصرف النظر عمن كان الرابح أو الخاسر في المنافسات الانتخابية التي طرحت علامات استفهام كثيرة. والتحدي الكبير يكمن في إنجاح هذه التجربة التي تمثل لبنة محورية في بناء هياكل وبنيات الدولة الموحدة التي تسمح بنقل اختصاصات مركزية إلى الهامش المحلي والجهوي، من دون أن تتأثر الأدوار المتكاملة لمختلف المؤسسات.
وإذا كانت ميول الناخبين استقرت عند ملامح التغيير في الاستحقاقات التشريعية، فإن الموقف ذاته ينسحب على انتخابات البلديات والجهات، في غضون انتكاس الكثير من تجارب التدبير المحلي، وبالتالي فقد أصبح للائتلاف الحكومي، كما بعض أحزاب المعارضة أذرع متمددة في الضلع الآخر للهرم الديمقراطي، خاصة على صعيد البلديات والجهات، ولاحقا مجلس المستشارين الذي كان يعول على دوره التنافسي والابتكاري، وإن كانت التجربة لا تخلو من هفوات وعثرات.
بكل المعايير والحسابات، يكون الجدل حول الديمقراطية المحلية أكثر إفادة، ومن غير المقبول إهدار هذا الرهان الواقعي الذي يلامس القضايا المباشرة للمواطنين في صراعات حزبية لا طائل من ورائها، إلا إذا كانت تسير في اتجاه فرز حقيقي، يترك للرأي العام وحده أن يحكم على مساره سلبا أو إيجابا. ولئن كانت نتائج الاقتراع ومآل التحالفات قد استقرت عند خلخلة المشهد الحزبي على صعيد الحكومة والمعارضة، فإن ذلك يجب أن يكون في اتجاه واحد لا بديل عنه، أي الارتكان إلى إقامة بلديات وعموديات وجهات متجانسة ومنسجمة، لا تستأثر فيها الأغلبية بدور احتكاري، ولا تنشد فيها المعارضة أسلوب العرقلة والتعطيل. فالأمر يتعلق بالدفاع عن مصالح المواطنين الذين قالوا كلمتهم، أما «الناخبون الكبار» فقد كان مفترضا أن ينطبق عليهم الوصف الذي يحملونه.
قبل التوجه إلى صناديق الاقتراع هيمنت ظاهرة انفلات المشهد الحزبي في معظم مكوناته عن الانضباط إلى قرارات الأحزاب السياسية، وقتها بدا جليا أن هؤلاء الذين يغردون خارج سرب الانضباط الحزبي في طريقهم إلى تشكيل قوة فوق قرارات الأحزاب التي عهد إليها دستور فاتح يوليوز بتأطير المواطنين.
الأكيد أن من يعجز عن تأطير منتخبيه الذين يضربون عرض الحائط بالالتزامات والتوافقات والتفاهمات الحزبية، يصعب عليه أن يحقق اختراقا كبيرا في مهمته، وقد بات واضحا أن غياب الانضباط أحدث ارتجاجا، بما يعني أنه لازال على الديمقراطية المحلية أن تقطع المزيد من الأشواط على طريق استيعاب معاني الالتزام.
وتلك هي المشكلة، إلا في ما ندر.