شوف تشوف

الرأي

رسالة نابليون لأهل مصر

بقلم خالص جلبي
(بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله. لا ولد له ولا شريك له في ملكه. من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية (يشير إلى مبادئ وشعارات الثورة الفرنسية في المساواة والأخوة والحرية). السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته يعرف أهالي مصر جميعهم؛ أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي؛ فحضر الآن ساعة عقوبتهم. وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك يفسدون في الأقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها (يقصد مثلها). فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم. قد قيل لكم أنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين أنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وأنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم (؟!). وقولوا أيضاً لهم أن جميع الناس متساوون عند الله، وأن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب … الخ).
وبتأمل الفقرات المنتقاة بعناية للضرب على الوتر الحساس، وبغض النظر عن التملق الكاذب، والمناورة المفضوحة في كلمات الداهية الفرنسي؛ فإن العمق السياسي وفهم هذه الشعوب وكيفية الدخول إلى قلوب أفرادها لمما يلفت النظر، ومازلت أتذكر حرب عام 1967م بين العرب واسرائيل حيث كانت حرب الدعاية الإسرائيلية تنفث كلمات من هذا القبيل للجندي العربي (أيها المواطن العربي فرصتك الآن للتخلص من حكامك؟).
إن كل هذا أي الدراسة النفسية للخصم، ومحاربته بطريقة علمية من الجانب التقني والإعلامي النفسي هي من شروط التفوق والغلبة، وهو ما كان الجنرال الفرنسي يبرع في استخدامه.
إن الحملة الفرنسية التي تنبه المؤرخ الجبرتي إلى جوانب أساسية فيها كانت تحمل جناحاً عسكرياً، جنباً إلى جنب مع فريق علمي ضخم على ما ذكره بسام العسلي في كتابه (نابليون بونابرت) من سلسلة مشاهير قادة العالم: (لقد تم الإعداد لحملة الشرق بما يتوافق مع أهداف الحملة عسكرياً واقتصادياً وعلمياً وأدبياً وفنياً. وقد ظهر ذلك في تكوين الحملة التي ضمت: (21) عالم رياضيات و (3) علماء فلك و (17) مهندساً مدنياً و (13) عالم طبيعيات ومهندس مناجم وجغرافي و (3) مهندسي تركيب مسحوق البارود والمتفجرات و (4) مهندسين معماريين و (8) رسامين و (10) فنانين ميكانيكيين، ونحات واحد و(15) مترجما و (10) كتّاب رسائل و (22) عامل طباعة مجهزين بأحرف لاتينية ويونانية وعربية. هذا بالإضافة إلى الشعراء والموسيقيين والراقصين. ولما كانت عملية إقامة امبراطورية ستصطدم بعاملي الدين واللغة فقد وضع نابليون في اعتباره ضرورة معالجة هذين العاملين لتحويل مصر من دولة شرقية إلى دولة ترتبط بالغرب) .
ويكفي أن نعلم أن هذا الفريق العلمي هو الذي اكتشف حجر رشيد وأعاد الحياة إلى اللغة الهيروغليفية في الوقت الذي كان المماليك مستلقين على ظهورهم، يدخنون الأراجيل في صورة (ملوك الزمان؟!)، على ظهور الشعب المصري، في أشعة الشمس المصرية الدافئة مثل السلاحف أو التماسيح على حافة نهر النيل العظيم؟!.
إن المؤرخ الجبرتي كما وصفه المؤرخ البريطاني كان يتمتع بـ (حس حضاري)  ولا غرابة فالعلماء يعرفون ويحترمون ويقدرون بعضهم بعضاً، والجهال يتراشقون ويتخاصمون،  والسياسيون يتنازعون، والمتعصبون يحقدون ويتهاوشوون،  وضيقو الأفق يكفِّرون، والعنصريون يتقاتلون ويفني بعضهم بعضاً، لأنهم من نار السموم التي أخرجت إبليس والتي تأكل ألسنتها بعضها بعضاً، ليتحول الكل في النهاية إلى حطام ورماد.
هكذا وصف المؤرخ البريطاني أيضاً ابن خلدون وعمله بأنه: (أعظم عملٍ من نوعه أنتجه أي عقلٍ في أي زمانٍ أو مكانٍ It is the best work of its kind that is created by any mind in any time or place)  .
جاء في كتاب عبد الرحمن الجبرتي دراسات وبحوث إشراف الدكتور أحمد عزت عبد الكريم ـ قسم عبد الرحمن الجبرتي للمؤرخ البريطاني توينبي ـ :  (إن التجربة التي خاضها الجبرتي في جيله بمصر تشابه إلى حد بعيد تجربة أوربي مثلي كان عام 1914 في مستهل شبابه، وعاش ليعاين التدمير الدرامي الذي فاجأ نظاماً مستقراً، ولم يقتصر الحال بالجبرتي على أن يعيش في خضم هذه التقلبات غير العادية؛ فقد منح إدراك مغزاها، وأوتي أيضاً المقدرة العلمية على تسجيلها، بإحساس صادق يتيح لقاريء روايته للأحداث أن يتفاعل مع تجربته عاطفياً مثلما يتجاوب معه فكرياً).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى