شوف تشوف

الرأي

رسالة شجرة تحاول إخفاء غابة

من الطرائف التي جرى تداولها على نطاق واسع، وإن بطعم المرارة، أن لكل الدول جيوشها التي تصون الأمن والحدود، وفي الجزائر تحديدا هناك جيش له دولة، في إشارة إلى استحواذ المؤسسة العسكرية، بفروعها وأجهزتها الدفاعية والاستخباراتية، على المفاصل السياسية والاقتصادية للدولة. حتى صارت تتحكم في جلب الرؤساء وإملاء شروطها على ساكني قصر المرادية.
حدث هذا في فترات كان فيها الرؤساء الذين استقدموا في غالبيتهم من الجيش، باستثناء حالتي محمد بوضياف وعبد العزيز بوتفليقة، يمارسون مسؤولياتهم، من دون عوائق صحية. أما الآن في ظل تداعيات الجلطة الدماغية للرئيس الغائب، فما من شيء يحد من تزايد نفوذ الجيش. وقد لا يعني تواري بعض الأسماء إلى الظل، من خلال الإبعاد والإحالة على التقاعد وإعطاء مسؤولياتها لآخرين، سوى أن الصراع يدور حول الاستئثار بالحكم، استعدادا لفترة ما بعد توزيع تركة الرجل المريض.
اللافت على خلفية المناقلات التي شملت أجهزة الاستخبارات العسكرية وميدان الدفاع والدائرة الضيقة حول قصر المرادية، أن ما لم يقدر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على تحقيقه في أوج بسط سيطرته والمقربين إليه على دواليب الحكم، تمكن من بلوغه، نظريا وشكليا وهو سجين كرسيه المتحرك. ما يفيد بأن الإقدام على إحداث هكذا تغييرات في الدائرة التي كان الاقتراب إليها محظورا، لا يمكن أن يتم إلا في إطار دعم الجناح المتنفذ داخل المؤسسة العسكرية التي دخلت الشوط الأخير في سباق المسافات المتبقية.
لأن فن السياسة هو اختيار التوقيت، فإن التغييرات الجارية، بعلم الرئيس أو عدمه، يأتي في سياق الإقرار رسميا باجتياز البلاد أزمة اقتصادية ومالية خانقة، جراء تراجع أسعار الذهب الأسود الذي يشكل عماد موارد الدولة. وكما في هكذا أزمات يصار إلى توجيه أصابع الاتهام إلى الضالعين في الفساد. ومن غير المستبعد أن يكون وراء التغييرات هاجس تحويل الأنظار، من خلال تشخيص الفساد في بعض الرموز، وهذا سلوك سياسي متعارف على نمطه عند تحويل الأنظار إلى ما هو أبعد من الأزمة.
الجانب الآخر في العملية، يميل إلى تقوية نفوذ الجناح العسكري والمدني الذي يتدثر بعباءة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ومنذ فترة غير وجيزة انبرت أصوات من داخل جبهة التحرير الجزائرية توجه النقد اللاذع لمسؤولي الاستخبارات العسكرية، تمهيدا للوصول إلى مرحلة إزاحتهم عن السلطة، أو تقليم أظافرهم على المدى القصير والمتوسط. فقد شكلت جبهة التحرير الوعاء الذي يفيض بالرغبات والتطلعات، ولم تكن في أي وقت بعيدة عن مراكز النفوذ العسكري والسياسي.
لذلك فقد اعتبرت إزاحة الوزير المستشار عبد العزيز بلخادم من الحزب والرئاسة مؤشرا على خروج الصراع حول مرحلة ما بعد الرئيس بوتفليقة إلى العلن، ولم يكن اجتماعه إلى رموز المعارضة التي وجهت سهامها إلى شغور منصب الرئاسة منذ ما قبل الولاية الرابعة لبوتفليقة، غير مبرر للإجهاز على طموحاته، التي توالت عبر توجيه ضربات قاتلة إلى أطراف أخرى. وفي مقابل ذلك اعتبرت عودة أحمد أويحيى إلى الواجهة بداية انغماس في ترتيبات لم يكن واردا أن تظل خافية أو متسترة.
من جهة لأن فصائل المعارضة التي ركزت خطابها على شغور المنصب الرئاسي، وبدت أقل حماسا لمشروع التعديل الدستوري، بدأت تحقق جاذبية سياسية، قد تنحو في اتجاه تقويض حسابات الراغبين في التمركز داخل دائرة السلطة، ومن جهة ثانية لأن أي ترتيبات قد تتعرض إلى الانهيار، إن لم تكن تحظى بدعم قوي من المؤسسة العسكرية التي خضعت بدورها إلى «غربال» الولاء والدعم غير المشروط.
في ظل تزايد المخاوف من تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية التي تجتازها الجزائر، يطفو صراع السلطة على الواجهة، وما كان يتم في الخفاء أصبح الآن يدور بصورة علنية بين الأجنحة والتيارات. والأرجح أن تسريع وتيرة الترتيبات التي همت إقصاء مسؤولين سابقين في مكافحة الإرهاب والتطرف، يراد من ورائه توجيه رسائل عديدة. أقربها أن فترة ما بعد بوتفليقة يمكن الإعداد لها منذ الآن، وأن المؤسسة العسكرية نزعت بدورها إلى إجراء تغييرات غير متوقعة، بما يكفل من وجهة نظر أصحابها تجديد الثقة في أن الجزائر في إمكانها أن تخرج معافاة من الأزمة الحالية.
إذا كان الحوار على الصعيدين الداخلي والإقليمي يتم عبر مؤسسة الرئاسة، فإن أولى تلك الرسائل تتوخى القول بأن بوتفليقة لازال في وسعه أن يعين ويقيل ويغير كبار المسؤولين، بما في ذلك القطاع العسكري والاستخباراتي، غير أن الرسالة لا تخفي أنها أقرب إلى شجرة تحاول إخفاء الغابة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى