عندما يعود الواحد منا إلى رشده، ويضع رأسه الصلب فوق مخدة الندم الناعمة، يفهم كم كان مخطئا في حق حكومته.
يكتشف فجأة كم كان جلفا وعديم الأدب عندما كان يطالب رئيس حكومة بلاده بتقديم الحساب للشعب على أخطائه، عوض شكره على كل تلك الأخطاء التي لولاها لما تعلمنا الصبر، هذه الفضيلة الإنسانية الضرورية لأمثالنا حتى لا تخوننا قوانا عندما نحتاجها في حمل كل هؤلاء السادة الذين يقررون في مصائرنا كل يوم.
لذلك أرى ضروريا أن أعتذر أصالة عن نفسي ونيابة عن كل هؤلاء الأجلاف الذين يقضون سحابة يومهم يكيلون التهم والشتائم لهذه الحكومة فيما هي بريئة منها براءة الذئب من دم يوسف.
سامحونا على طول لساننا عندما اتهمناكم بضرب الناس في الشوارع عندما احتجوا ضد الغلاء والبطالة، لم نكن نعرف أنكم كنتم تفعلون ذلك حرصا على سلامتنا من هؤلاء الأشرار الذين يريدون تسفيه جهودكم الثمينة.
سامحونا لأننا أزعجنا قواتكم سريعة التدخل عندما يتعلق الأمر بالحضور لضربنا، والبطيئة كسلاحف كلما تعلق الأمر بالتحرك لإنقاذنا.
اعذرونا على قصر فهمنا لكل ما تقومون به لمصلحتنا. فنحن لفرط غبائنا في كل مرة نراكم تلوحون بالعصا نتصور أنكم تريدون جلدنا. فيما أنتم فقط رعاة مستأمنون على قطعان هائلة من الأغنام والماعز والجمال، وبعض الحمير أيضا، وفي كل مرة تلمحون الذئاب تقترب من القطعان تلوحون بالعصا لكي تخيفوها حتى تبتعد، فننجو ونعيش لكم، نحن دوابكم تسرحوننا كما يحلو لكم، وعندما تجوعون تأخذون بعضنا إلى المسلخ لكي تذبحوه بعيدا عن أشباهه. فأنتم رحماء بنا، ويحزنكم أن نرى رقاب بعضنا البعض تجز أمامنا.
ما أرق قلوبكم، وما أغبانا.
سامحوا هذا الأمريكي المدعو «يوتوب»، الذي لم يحترم سرية مهمتكم في مدن وقرى المملكة وفي طرقات البلاد المليئة بالقناصة، حيث المرتشون أكثر عددا من الأشجار، وخرج يعرض خدماتكم الجليلة التي قمتم بها من أجل راحتنا، ويقدمها كانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أمام الغرباء.
دعونا نقول لهذا «اليوتوب» وأشباهه نيابة عنكم، أن الإنسان الذي يتحدثون عنه نحن لا نعرفه، لأننا لسنا أناسا بعد وإنما مجرد مواطنين إلا ربع.
وبما أن الأمر لا يتعلق بنا فنحن راضون بهذه الانتهاكات التي تزعجهم كثيرا في بلدانهم البعيدة وراء البحار، ونسامح المتورطين فيها، لأننا فهمنا متأخرين أن كل هذه الانتهاكات التي تقوم بها حكومتنا هي في مصلحة مستقبل الوطن.
تصوروا لو لم تكن هناك انتهاكات فبماذا سيشغل أبناؤنا وقتهم بعد عشرين سنة من الآن، إذا لم يجدوا أمامهم ضحايا مخططات خماسية وعشارية، تماما كما وجدنا نحن.
فكما فكر السابقون في مستقبلنا وتركوا لنا جيلا معطوبا، فنحن أيضا يجب أن نكون عند حسن ظنهم بنا، ونترك للذين سيأتون بعدنا فرصة تذوق نصيبهم من العبث اللذيذ الذي يسميه رعاتنا الانتقال الديمقراطي.
سامحونا على لؤمنا، فأنتم تطعموننا الأمل بملاعق الذهب، وعوض تقديم الشكر نشكو الجوع الشديد إلى اليأس.
تعلموننا كيف ندير خدنا الأيمن عندما تشبعون من صفع خدنا الأيسر، فنفشل في تعلم الدرس وندير ظهورنا لكم ونمضي إلى بلدان الجيران.
نحن الكسالى الذين لا يريدون أن يفهموا أن سادتهم يجوعونهم ويضربونهم لمصلحتهم.
تعلموننا كيف نرى الوطن بالألوان، فنراه بالأبيض والأسود، اعذرونا، فنحن نعاني من عمى الألوان، ونحتاج إلى طبيب «يفتح» عيوننا على الألوان الزاهية لعهدكم الزاهي.
فقد «فتحتم» رؤوسنا ما يكفي أمام البرلمان، ولم يكن ذلك كافيا لكي نرى حقيقة معدنكم الثمين.
نحن القادمون من معادن رديئة لا تصلح سوى لكي تصهّر تحت درجات مئوية لتصنعوا منها براغي ومسامير في آلتكم الضخمة.
قضيتم سنوات طويلة تعلموننا في المدارس الحكومية أن الصمت حكمة، وأن الفم المغلق لا يدخله الذباب، وأن الصمت من ذهب، وعندما كبرنا نسينا دروسنا كأي أغبياء وجئنا نرفع عقيرتنا بالصراخ أمام مقراتكم الحكومية، بلا خجل منكم أو خوف.
وعندما طردتمونا وضربتمونا اشتكيناكم إلى الغرباء بالبيانات، وأرسلنا استغاثاتنا وراء البحار، وانتظرنا أن يأتي من يخلصنا منكم.
سامحونا على هذه الخيانة العظمى، كان علينا أن نتحملكم ونكتم أنفاسنا ونتلقى ضرباتكم بصمت كما علمتمونا في الصغر، وألا نفتح أفواهنا حتى لا يدخلها الذباب.
ذباب المرحلة الذي تكاثر بسبب كل القذارة التي تراكمت أمام أبوابكم، وها قد وقع المحظور وفتحنا أفواهنا ودخلها الذباب والنمل وسائر الحشرات، إلى درجة أن بعضنا عندما يتكلم يصدر عنه طنين حاد مكان الصوت.
اتهمناكم بدون دليل، مع أن أياديكم ملطخة بدمائنا. اتهمناكم وأنتم منا براء. لذلك نطمع في رأفتكم وسماحة قلبكم.
سنجري عملية لتصحيح البصر في عيادات تابعة لوزاراتكم المكلفة بالأسرة والتضامن والحريات والعدل، حتى تصبح لدينا عيون زرقاء اليمامة، بحيث نرى جيوش العاطلين والفقراء على هيئة متاحف لحفظ الكائنات والبقايا البشرية القديمة.
سنرى كل ما تحبون أن نراه، الشغل متوفر والناس كسالى لا يريدون القيام به، وهو يجرهم من ثيابهم ويستعطفهم أن يشغلوا أنفسهم به لكي يتقاضوا عنه راتبا في آخر الشهر.
المستشفيات فارغة تنتظر أن يمرض أحد لكي تسعفه، ولا أحد يمرض.
الخبز متوفر في الشوارع إلى درجة أنه يطارد الناس إلى بيوتهم ويطلب منهم أن يأكلوه ويريحوه من البقاء طيلة الوقت مهملا في واجهات المخابز.
سامحونا، أيها السادة، لم نكن نعرف أنكم متفائلون إلى درجة أنكم أصبحتم تخلطون الشعب بالعشب، فتدوسونه بلا رحمة.