أحد أهم الكتاب الفرنسيين على مدى أكثر من خمسين عاما، ويعد علامة بارزة في مصاف كتاب النصف الثاني من القرن العشرين، لم تترجم له إلى العربية أعمال إلا أن كتاباته كانت تخترق الجوانب الإنسانية للعوالم البشرية.
غادرنا أخيرا عن واحد وتسعين عاما في بلدة بالقرب من عاصمة الثقافة الفرنسية باريس، ولم يغادر عالمنا وحيدا مثلما حدث للعديد من رموز الإبداع، بل كان محاطا بتلاميذه وأقاربه، الذين لم يفارقوه طوال ثلاثة أشهر بعدما اشتد عليه المرض ولم يعد قادرا على البقاء بمفرده.
فابيولا بدوي ـ باريس (عن مجلة دبي الثقافية)
إنه ميشال تورنييه، الذي شكل الروائي والشاعر البريطاني، دانييل دوفو، له مصدر الإلهام خلال فترة الشباب وتأثر به كثيرا، فقد وجد في إبداعاته تميزا في البناء الروائي وقدرة على الجمع بين الأسطورة والحقيقة، فجرب في سن مبكرة الكتابة ولكنه فشل فشلا شكل له صدمة لازمته طويلا، لكنها لم تكسر رغبته في إبداع متفرد تمتزج فيه الأسطورة بنظرته الفلسفية للعالم، وكان لديه تصور خاص بأن هذا النمط من الإبداع لن يتمكن منه إلا عبر هزة وجدانية ونفسية كبرى، وربما كان يمتلك قدرا من الصدق في تصوره هذا، لكنه لم يبلغه إلا في سن متأخرة، حيث بدأ يبزغ نجمه ككاتب ولم يدخل عالم الأدب مستوحيا أعماله من الأساطير التي أجاد تجديدها وتشكيلها لتقترب من عالمنا إلا في سن الثانية والأربعين، لكنه لم يهدر تلك السنوات بل استثمرها استثمارا مكنه من الثقافتين الفرنسية والألمانية، وقراءة الكثير من الأدب والشعر، واستلهم بعض تلك الشخصيات التي عايشها، عبر ثقافته الخاصة وأعاد بناءها من وجهة نظره التحليلية للتكوين الذهني والنفسي للشخصيات نفسها.
ولد تورنييه في التاسع عشر من ديسمبر عام (1924) في باريس، من والدين متخصصين باللغة الألمانية ما جعلها أولى الثقافات التي اطلع عليها، ثم درس الفلسفة في جامعتي «السوربون» و«توبنجن».
بعد تخرجه عمل مترجما خلال ما يقرب من الثمانية عشر عاما (1950/1968) ثم ملحقا إعلاميا في إذاعة (أوروبا 1)، وفي الوقت ذاته مدققا لدى دار (بلون) للنشر والتوزيع، كما عمل مقدما لبرنامج تلفزيوني حول فن التصوير، ثم بدأ مشواره في الكتابة والنشر بعد ذلك. ولأن حياته ككاتب لم تكن بها منعطفات حادة مثل غالبية الكتاب، فقد آثرنا هنا أن نستعرضها عبر متابعة تصريحات خلال شهرته لوسائل الإعلام المختلفة بين الحين والآخر.
نجده يتحدث حول معانقته فن الأسطورة وتحريك الشخصيات المعروفة وخلق علاقات جديدة في ما بينهم بقوله: الأسطورة تتناقلها الأزمنة، وتتبدل ملامحها تحت قلم كل كاتب أو شاعر أو موسيقي، وكل يجدد فيها أو يمدها بأبعاد تتلاءم مع الإنسان الجديد، كي لا تبقى مكتسية بلباس الماضي العتيق.
عاش طفولة هادئة بدت واضحة في كتاباته، وإن كان لم يكتب يوما أية سيرة ذاتية، لكنه كان يردد دائما: لدي طبيعة خياية مرتبطة بالأرض، بالحجر، بالكون، وهي ما شدتني إلى أدب جمالي عايشته عبر طفولتي السعيدة، التي عشتها مع والدين مثقفين التقيا في «السوربون» وتآلفا مع اللغات الأجنبية، ومن هنا كان حرصهما على أن أنهل اللغة الألمانية والأدب الجرماني من منابعهما. ولعلي بهذا كنت الطالب الوحيد الذي تجرأ ودرس في بلد شاءته الحرب العالمية الثانية عدوا لبلدي الأم. وفي لقاء صحفي قال: نشأت في قرية صغيرة في منطقة البورجوني الساحرة. كان للطبيعة والحياة مع جدي سحر خاص، فقد كنت أتنزه بين الأعشاب الكثيرة، التي كان يركب منها جدي عقاقيره الحفية، طبخاته الصحية كانت تثير فضولي، لذا تعرفت وحفظت أسماء الأعشاب في فرح وخوف من أسماء بعضها، لكني عشت أترنح من كيمياء الطبيعة.
هكذا كان ميشال تورنييه، الذي عانق الأساطير حقيقة وإبداعا، فقد دلف إليه وهو صغير في الرابعة عشرة من عمره من باب إبداع الروائية السويدية سلمى لاجرلوف «رحلة نيلز هولجرسون»، وهو كتاب جغرافيا وضعته للصغار ونالت عليه في العام (1909) جائزة «نوبل» والشهرة العالمية. كانت هذه هي بداية علاقته مع المناخ السحري فطالما ردد: أحببت في مراهقتي السحر وقصصه، إنما ليس أية قصص، بل السحر الذكي الذي يضيء درب القارئ. لذا لم تستهوني أبدا قصة «ساندريلا والفاكهة» التي حولتها الجنية الطيبة إلى عربة ملكية، بل أحببت رحلة نيلز الرائعة.
أما في سن السابعة عشرة من عمره، فكانت مرحلة بداياته مع الفلسفة التي طالما ذكرها خلال لقاءاته، وعنها روى: كانت صرخة فكرية بنظري. قررت الانصراف إليها في منحاها الكلاسيكي، ولا أزال أستقي من تعاليمها حتى هذه اللحظة، لا كما تدرس اليوم بالإبهام والضلال عن دربها الصحيح ولكن بطريقتي الخاصة. قد نهلت الفلسفة من ينبوعها الألماني، وتابعت طوال أربع سنين التوغل فيها في فرنسا، لتأتي نتائج الامتحان لتخبرني برسوبي فيها. ذاك ما جعلني أعدل عن حلمي، فأدخل مجال البث السمعي. وكنت مكلفا بأن أحمل جهاز تسجيلي وأطوف بين أصحاب العلوم والفلسفة والكتاب والشعراء، أسألهم وأستوضح آراءهم. ظننت نفسي قادرا على تعويض فشل ماض بأسئلة ذكية تضاهي أجوبة أولئك المفكرين. بعد سنين، أذكر أني أدرت جهازي في ساعة متأخرة من الليل، فسمعت بالمصادفة صوت معلمي جاستون باشلار، الذي راح يشرح شروط المعرفة العلمية ويحللها، ومحاوره يحاول عبثا أن يزج في الحديث بـ «ثورته» الفكرية. في منتصف الحديث، تذكرت أن هذا المحاور «الأهبل» كان أنا! خلال عملي غدوت ملما بأحلام الإنسان، بضلاله ويأسه. وبقيت أروي حديقتي السرية بالفلسفة، متنقلا بين فكر نيتشه وسبينوزا، تاركا للوقت حريته، حتى أفاق قلمي في الثانية والأربعين على بطل قصتي كما أرغب في تقديمه، ونجحت في هذا حتى أني لم أندم على السنين الضائعة. فقراءتي المبكرة لـ«روبنسون كروزو» أعطتني درسا في النضال والمثابرة والشجاعة من أجل البقاء.
نحن نتحدث عن كاتب أثرى عالم الإبداع على مدى خمسة عقود، وأجمع النقاد على أنه التقط في شبكته رمزين: العنصرية والمنبوذين. في ضوئهما رأى أناسا بلا هوية ومجتمعات تعاني العزلة، وتمكن من تجسيد ما هو أقسى من الوحدة ونعني هنا الوحدة التي نعيشها بين الناس.
صار ميشال تورنييه شخصية رئيسية في الحياة الأدبية ونقطة محورية في الأدب الفرنسي، كما أصبح جزءا لا يتجزأ من لجنة التحكيم في جائزة «الجونكور» ولم يتركها إلا في العام (2009) بسبب تقدم العمر، تفرده هو ما حذا بالرئيس فرانسوا ميتران لزيارته أربع مرات خلال فترة رئاسته، فقد تمكن صاحب الكتب والدراسات والمقالات من تحريك الأسطورة عن برجها العاجي وجعلها ملكا للبسطاء كافة.
نال العديد من الجوائز الأدبية، ففي العام (1970) حصل على جائزة «الجونكور» عن كتابه «ملك شجر الماء»، وكان قبلها قد فاز بالجائزة الكبرى للرواية من الأكاديمية الفرنسية في العام (1967)، كما منح وسام الأرز من رئيس الجمهورية اللبنانية أثناء زيارته لها.
ظل يكتب حتى سن متأخرة جدا، ويعود آخر كتاب أصدره للعام (2015)، وهو مراسلات مع مترجمه الألماني منذ العام (1946). وفي السنوات الأخيرة ظل كما هو وكأنه يعانق العالم من خلال أسطورة، فلم يشكُ مرة واحدة من تقدم العمر ولكن شكواه كانت فقط بسبب عدم قدرته على السفر.