رحلة مع ذرة السكر
بقلم: خالص جلبي
والآن إلى سر جديد من أسرار الخلية، بعد أن عبرنا ثقوب الغشاء الخلوي عبر تلك البوابات السرية المتحركة؛ فإننا نواجه جدار الخلية من الخارج، وإذا بالجدار ينفتح منه باب للدخول، وهذا الباب ليس للعموم، فمن شاء دخل، بل إن على الثقب بواب عاقل حكيم، فهو يسمح لبعض الذرات بالدخول، كما في ذرة البوتاس، ويمنع ذرة الصوديوم، مع أن ذرة البوتاس أكبر من ناحية الوزن الذري من الصوديوم، ولكنها إرادة البواب العاقل الذي يقف على البوابة السرية المتحركة، التي تكمن في أي نقطة من جدار الخلية. ومن هذه الذرات الهامة التي معها إجازة دخول ذرة السكر، ولكن هل الخلية هي المركز الأول للتفتيش والدخول لنرَ؟
لنحاول أن نتتبع مسير ذرة السكر من نقطة الدخول الأولى حتى تستحيل إلى غازات تنطلق في الهواء، وهي غاز الفحم وبخار الماء.
إذا رافقنا ذرة السكر نجد أنها إذا كانت من نوع النشويات بدأت بالتغير من لحظة مرورها الأولى بالفحم، وذلك بسبب وجود خميرة النشا في الغدد اللعابية الموجودة في الفم وهي ست في كل جانب ثلاث، وهي غدة تحت الفك وغدة تحت اللسان والغدة النكفية، وأما إذا كانت من أنواع السكاكر الأخرى، وللسكاكر أنواع وليست نوعا واحدا كما يتوهم القارئ؟ حيث تنقسم إلى سكاكر خماسية وسكاكر سداسية، والأخيرة لها أنواع عديدة منها سكر العنب وسكر اللبن وسكر الثمار وغيرها، فإنها تصل إلى الأمعاء، وهناك يحصل لها التغير الأساسي، حيث لا يمكن لها أن تدخل جدار المعي بدون جواز مرور، وهذا الجواز هو عملية الفسفرة في مصطلح الكيماويين، ومن هناك تصل إلى الكبد عبر الدوران، حيث يعتبر الكبد مركز الجمارك العام، وهنا يحصل أعجب وأغرب الأشياء في البدن، وهو تحويل السكر إلى ما يسمى الغليكوجين أو مولد السكر، لأن هذا يعتبر المركز التمويني العام للسكر في الدم، وحتى نعرف نتائج هذا الأمر؛ فإننا يجب أن نعرف أن كمية السكر في الدم في حدود 5-6 غرامات، وهذه لا تكفي أكثر من ربع ساعة لحاجة البدن، فمن أين سيأتي إمداد الدم بالسكر وبشكل منتظم، خاصة إذا علمنا أن غذاء الخلايا العصبية الأول والمفضل هو السكر بالدرجة الأولى، فإذا حصل نقص عن 50 ميليغراما في 100 سم3 من الدم؛ فإن المرء يشعر باضطراب ذهني وانزعاج، وإذا هبط أكثر من ذلك عن 40 ميليغراما أصيب المرء بارتعاشات عضلية وإغفاء متزايد واختلاجات، وإذا حصل أكثر من هذا حدث ما يسمى السبات السكري، وهي حالة الغيبوبة الكاملة بسبب نقص السكر الشديد! وهذا يعني أن نقص السكر أخطر بكثير من زيادته خلاف ما يتصور الناس، وهي حالات رأيتها أنا شخصيا رأي العين.
إن الذي يؤمن كل هذا هو الكبد مركز التموين الأول، لأن السكر حينما يمر إلى الكبد، ينظر الكبد إليه نظرة البصير في وضعه، فإذا كان يحتاج إليه قلبه من سكر عادي إلى مولد سكر (غليكوجين)، وإذا زاد عن حده الذي يريده، حوله إلى مراكز التموين الأخرى، وهي العضلات، حيث يختزن هناك أيضا بشكل مولد سكر يكون تحت الطلب، وبعد هذا يكون هناك انتظام ما بين مقدار السكر في الدم، ووضعه في الكبد، فإذا استنفد البدن السكر، قام الكبد بشكل آلي تلقائي بحل السكر المتكاثف عنده إلى سكر بسيط مستساغ إلى الدم، ومن الدم ينتقل إلى كل خلايا الجسم التي تحتاجه.
وهنا نتساءل: يا ترى ما الذي يحدث للسكر عندما يعبر الدم إلى الكبد، هل يتحول كله إلى مولد سكر، أم ماذا؟ وذلك قبل أن نصل إلى خاتمة المطاف في الخلية؟
إن الطب يجيبنا فيقول إن أمام السكر ثلاث طرق: وهذه الطرق تنظم أيضا بحسب حاجة الجسم، فهو إما أن يجتاز الطريق السريع فورا، فلا يتحول إلى شيء خلال الكبد، بل فورا إلى الأنسجة حيث يحترق ويتحول إلى غاز فحم وماء، وهذه الطاقة كما ذكرنا تصرف تدريجيا حسب حاجة الخلية، وإما أن يتحول إلى دسم وشحم حسب حاجة البدن إلى ذلك، وحسب الفائض، ولذا نرى أن الإكثار من النشويات يؤدي إلى السمنة والبدانة وتعرف بفحصين إما الطول ناقص مائة أو حاصل قسمة الوزن على مربع الطول (BMI)، وإما أن يدخل العضلات ليتحول إلى مولد سكر كما ذكرنا، أو في الكبد، ولكن وضعه في العضلات يختلف عن وضعه في الكبد، لأن الكبد يقلب الغلوكوز عند زيادة الوارد من الغلوكوز (سكر العنب) ويحصل العكس، أي حل الغليكوجين إلى غلوكوز عند حاجة البدن، وهذا طبعا يمشي باستمرار ودون توقف لحظة واحدة من ليل أو نهار، وذلك لأن استهلاك الجسم للسكاكر دائم من أجل تموين الجسم بالطاقة والحرارة اللازمة للحياة.
إن مولد السكر في العضلات إما أن يتحول إلى حمض لبن أثناء استهلاكه، وهذا بدوره يتحول في الكبد من جديد إلى مولد سكر، أي إن الحلقة تكون مغلقة، ولا يضيع شيء سوى هذه التحولات. وأما أن يحرق ويستفاد من القدرة المتشكلة.
ثم لنتابع رحلة هذه الذرة التي مرت في هذا الطريق الوعر المنظم الشائك المتناسق! حيث تصل إلى البوابة السرية المتحركة في جدار الخلية، حيث يلقي القبض على ذرة السكر بواسطة خميرة، ويقوم هورمون الأنسولين بدور السائق، الذي يوصل الذرة إلى الخلية، وبدور المسهل لدخول الذرة السكرية إلى الخلية، حيث تصل إلى مثواها الأخير (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر فمستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ـ سورة الأنعام98).
وهنا لنتساءل مرتين: أولا من الذي يسيطر على كل هذه التفاعلات المعقدة والمنظمة؟ ثم كيف يستقر السكر في الدم بنسبة معينة ثابتة لا تزيد أو تنقص، وهي غرام واحد فقط في كل لتر من الدم، بحيث إن النقص أو الزيادة، يؤدي إلى اضطرابات مخيفة، أهمها السبات والداء السكري المشهور في الزيادة؟ وهنا يقف المتأمل خاشعا، وهو يرى هذه الأسرار العجيبة، وهي تخبره عن بعض التفاصيل الرائعة، التي تحدث.
أولا هناك من المنظمات الهرمونية ما يحير، فهناك المنظمات الهرمونية التي تقوم بفعل لجم لزيادة السكر وهناك هورمونات مضادة تفعل بالعكس، وهي تعمل بانتظام فالأنسولين هو الذي يقوم بإنقاص السكر في البدن، وذلك بزيادة إدخاله إلى الخلايا لزيادة استخدامه، أو لجم انحلاله من الكبد، وزيادة قابليته للتحول إلى الدسم، وإنقاص التحولات الأخرى التي تصل إلى سكر، كما في تحولات الدسم والحموض الأمينية، وأما الهورمونات المضادة وهي تشترك جميعها بحل السكر، فهي هورمون الغلوكاكون، الذي يفرز من المعثكلة، وهورمون النمو من الفص الأمامي للغدة النخامية، وبعض هورمونات قشر الكظر والأدرينالين من لب الكظر وكذلك التيروكسين وهو هورمون الغدة الدرقية، الذي يتعاون أيضا في الاستقلاب وحل السكر أيضا، وكلها تعمل في سبيل الثبات والتوازن ما بين هذه الهرمونات وتنظيم إفرازها بالتعاون مع الكبد، وجعل السكر في ثبات واستقرار في الدم. إن الأمر فعلا يدعو إلى الدهشة والعجب، ولكن لا عجب في إبداع خلق الله «صنع الله الذي أتقن كل شيء» سورة النمل.
رحلة مرض السكري
عندما كنا في زيارة أخ فاضل لنا، كانت قسمات وجي الوالدين مغطاة بالوجوم والحزن، فقد اكتشفا عند طفلهما الصغير إصابته بالسكر فلم يصدقا، ولكن الفحص المكرر للسكر لم يترك مجالا للشبهة. واليوم كبر الصبي وأصبحت الأم اختصاصية بمرض السكر أكثر من عشرة أطباء، وهي ليست بالطبيبة لأنها تعلمت من جو المعاناة! وليس هناك من درس أقسى ويرسخ في الضمير مثل المعاناة!
وأعرف طفلة أعيت أهلها لأنها لا تتقيد بالحمية وهي مصابة بالسكري، وكأنها شعرت مع تعليمات الأهل التي لا تنتهي أنها مقيدة بأصفاد من عجز بنيتها ومطوقة بأسوار فوق الأسوار من المرض المزعج الملازم.
وهناك من يصاب بالسكري فيستخف ويقول أنا بطل ولا يمكن أن ينال مني، فينقل بحالة إسعافية إلى العناية المشددة مصابا بعلتين من إحتشاء القلب وانسداد الشرايين. فيحقن بمذيبات الجلطات ويؤخذ على عجل إلى قاعة العمليات لاستئصال جلطة من شريان الساق، قبل أن يتموت الطرف فيبتر، ويرجع الجراح والمريض إلى قاعة العمليات، بعد أن حاول الاثنان الهرب منها.
ولي صديق فاضل أصيب بالسكري وهو أصغر مني وأعرفه من أيام الجامعة، قلت له: «كيف كشفت السكر عندك، وكيف تصفه؟» زفر وتأملني وقال بحرقة: «إنه سرطان يمشي ببطء». وفي يوم أصيب بألم في ساقه من التهاب عضلي فقاسى منه الكثير. وفي يوم زرته فسألته ماذا حصل له، قال: «كنت في زيارة إلى ابني في مصر، وبحثت عن سيارة تقلني فلم أجد، فاضطررت أن أتحامل على نفسي ومشيت وتألمت وصعدت أدراجا لا حصر لها، ونزلت عبر ممرات كثيرة، ولكن الألم حررني فاكتشفت بعد ذلك المشي المجهد أنني تحررت من الألم، وكأن العذاب كسر الألم كسرا»، وحمد الله على العافية والمرض.
وفي يوم طلب مني تقييم وضع الشرايين عند مريضة في ساقها، فاكتشفت أن أطرافها قطعت أشكالا مختلفة، فليس من يد أو طرف إلا وقد طار منه جزء أو أصبع، وكان طرفها الجديد المتبقي بدون بتر قد فاحت رائحته واسود فهو ينادي أنه في طريقه إلى البتر.
ومشكلة القدم السكرية يشتغل عليها العديد من الأطباء والباحثين، وهي تشكل تحديا لمن يتورط في الإصابة به أو معالجته. وفي يوم زرت والدتي وهي مصابة بالسكر على كبر، فبدأ أصبع القدم عندها بالالتهاب قلت لها: «انتبهي واتركيه جافا»، فأرتني كيف تعالج المرض فتعجبت كيف وصلت إلى طرق خاصة يحتاج الأطباء أن يتعلم منها دروسا. مع ذلك فقد قضى عليها في النهاية، لأنها استخفت بالمرض وليس مثل الاستخفاف حماقة.
ويبدو أن المرض يلهم المريض ألوانا من المقاومة لا يتفطن إليها الأطباء. وكل يوم يواجهنا مرضى الفشل الكلوي، وعندما نسأل عن السبب خلف المرض يأتي الجواب إنه السكري. وهو سبب رئيسي من أسباب شتى. ومن المهم لنا أن نعرف أنه مرض يمكن الانتباه إليه ومكافحته بتخفيف الوزن والحمية الصارمة والرياضة للجم شراسته والتخفيف من مضاعفاته؛ فهو يفضي إلى زيادة ضغط الدم وإصابة شبكية العين (أذكر شابا في بريدة من قصيم السعودية حين جاءني أعمى وقال لم أدرك إلى أين وصل) وقصور الكلية وانسداد شرايين القلب. وفوقها العنة كما روى لي أبو صالح المحاسب وموزع رواتب الموظفين في القصيم، حين سألته عن أثر السكر عنده قال جنسيا قضى علي! ودرهم وقاية خير من قنطار علاج.