رحلة صيد أوقفتها الطرائد
سخر صياد سمك من صديقه الذي يمارس هواية القنص. كان يتطلع إلى زرقة البحر، منتشيا برائحته التي تلفظ كل ما يفقد الحياة. بينما صديقه العائد من رحلة صيد، لم يظفر هذه المرة بما يفاخر به على عادة الصيادين الذين يرصعون أذرعتهم بأنواع الطرائد، في نهاية النزهة.
قال له مازحا: «عجبا كيف لم تصطد أي غنيمة، مع أنك تبصرها بالعين المجردة، قبل التصويب نحو الهدف؟». وقدم مثالا عن خيرة صيادي الأسماك الذين يمسكون بها، وهي تُقتلع من البحر والنهر، من دون أن يروها. فقط يرمون شباكهم إلى الأفق في اتجاه عمق المياه، عند أقرب منحدر إلى الشاطئ، ينتظرون تموجات الرياح التي تأذن بحلول موعد القطاف. ومنذ الأزل كان الإنسان يحتمي من الرياح والأمطار العاصفة، ثم صار يستخرج منها الطاقة النظيفة، بعد أن طوعها على الشراع، مهتديا بفك أسرار الطبيعة، كما الفراشات النادرة التي تقطع المسافات الطويلة على بوصلة شروق الشمس وغروبها.
رد القناص الهاوي على صديقه، كما في السجالات التلقائية لدى زجالي القبائل: «فهمت أن لهذا السبب لا يستخدم صيادو البحر عيونهم، بل يستعينون بأسماك صغيرة من البلاستيك، أو أنواع من الديدان والحشرات التي تنصب الشراك للأفواه المفتوحة». ثم تجادلا طويلا لتزجية الوقت حول مزايا وضوابط هواية الصيد، برا وبحرا. ومثل الأسماك البلاستيكية وغيرها من أنواع الطعم، يتولى السلوقي إرشاد صاحبه إلى مكان الطرائد التي تخشى الكلاب والنار والضوء. ومن غير الحيوانات الأليفة واللاحمة يعرف بعضه، حتى أن حشرات صغيرة تستطيع أن تستوطن جسد النسور التي تهابها، حين تنزوي بعيدا في انتظار الموت البطيء.
في الأساطير أن الصيادين أقرب إلى بلوغ عالم لا متناه، لأن إلمامهم بطبائع الطرائد جزء من معرفة عميقة ببعض أسرار المخلوقات. وما أغربه من تناقض، يبحث العلماء في وسائل إسعاد البشر والقضاء على الأمراض المزمنة الفتاكة، يسخرون المعرفة والعقل وابتكار أساليب عيش مريحة، فيما هناك من يخترع طرائق بشعة في القتل وإضرام النار في الأسرى والرهائن المختطفين.
وفي الواقع تصبح أحاديث القادة السياسيين الكبار أثناء رحلات الصيد، محفوفة بالحميمية ومشاعر الألفة، وإذا كانت المنافسات الرياضية قادت في بعض الأحيان إلى إذابة الجليد بين العوالم، كما حدث في مباراة كرة الطاولة التي جمعت أمريكيين وصينيين بعد جفاء إيديولوجي عمر طويلا، فإن منافسات الصيد يكون لها مفعول سحري في التقريب بين الزعامات والدولة.
ورأيت الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، يتقدمان بتؤدة نحو محمية غابوية في ضواحي أزرو، ذات ظهيرة من مطلع العام 1989. تساءلت مع نفسي: ماذا عساهما يقولان لبعضهما؟ كل واحد منهما يمسك بندقيته ويوجهها نحو الهدف. لكن قنص طرائد الغابة ليس مثل هدر أرواح البشر في الحروب التي لا طائل من ورائها.
أي متعة يشعر بها قائدان انتفى الود بين بلديهما لفترة طويلة، لكنهما يسيران في اتجاه واحد أملته قوانين وتقاليد الضيافة التي لا تكتمل دون رحلة صيد؟ في تقاليد متعارف عليها أن النار لا تطلق على الأعزل، إلا أن الحيوانات التي سخرها الله لبني البشر، يأكلون لحومها وينتعلون بجلودها ويتعيشون من عاجها كما جلود التماسيح ذات القيمة العالية، وأنواع الفرو التي تصنع منها الألبسة الفاخرة، تدفع إلى اختبار مهارات القنص والتسديد عن بعد في مواسم مخصصة لممارسة هواية رياضية، يتبارى فيها الإنسان مع طباع المعيش في الغابات.
أحاديث السياسة تحلو عند ممارسة القنص، إذ يخلد المرء إلى الطبيعة يتأمل قوانينها ويغوص في ألغازها التي حافظت على بكارتها. ومنذ أن كانت الغابة وهي تباغت السكان الآمنين. فقد ارتبطت في الأذهان بأساطير الليل وانفلات الوحوش الكاسرة، وظلت أقرب إلى نقيض العمران وانبلاج أشعة الشمس التي تطهر النفوس من المخاوف. والظاهر أن الإنسان الذي كان يخشى الغابة أو يقتحمها رمزا لبطولات ومغامرات ومعارك، تعمد أن يجلبها إلى الحاضرة، من خلال إقامة المحميات التي تكفل النزهة والقنص، من دون مخاطر.
بعيدا عما دار بين الحسن الثاني والشاذلي بن جديد في تلك الظهيرة التي أعادت علاقات البلدين إلى مربع وئام سرعان ما تعرض إلى الانهيار، بعد أقل من خمس سنوات، تقول الحكاية إن الملك الحسن الثاني نزل من سيارته التي كان يرافقه على متنها رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وسمعه الحضور يقول: إذا صادفت، يا سمو الشيخ، وحيشا رفقة أبنائه الصغار، فلا تطلق النار.
ضحك الشيخ وهو يردد أن الصيد مثل بلوغ سن الرشد يستثني القاصرين، ثم توغلا داخل الغابة يمارسان هواية مفضلة، كثيرا ما دفعت الراحل زايد بن سلطان إلى السفر إلى الهند وباكستان وكل الأماكن التي تحفل بمواسم الصيد، لكنه ظل يحافظ على عادة القنص في ربوع المغرب.
فجأة لاح سرب من الوعل، ثم تفرق لدى إحساسه بوجود غرباء، إلا أن واحدة من قطيعه لم تلتفت إلى جلبة الحضور، فقد توقفت في مكان غير بعيد عن موكب القنص، وهي تلتفت يمينا وشمالا، ثم رست بلا حراك. تقول الحكاية إن الحسن الثاني أوقف رحلة الصيد ذلك اليوم، فقد رأى أن الوعل يمارس طقوس استعطاف، وإن لم يكن يدري شيئا عما ينتظره.
لكن الحسن الثاني اعتبر اللحظة نهاية رحلة صيده، وعاد من دون أن يقنص أي طريدة.