رحلة تقاعد على متن القطار
على امتداد شهور، ظل أحد الصحفيين القدامى وفيا لعادته في التنقل بين محطتي القطار، من وسط الرباط إلى أكدال. كان في وسعه أن يمتطي سيارة أجرة، أو يضرب موعدا مع صديق، لكنه فضل هذه الطريقة، وفي ذهنه أن استخدام بطاقة الصحافة التي تمكنه من الركوب مجانا على متن كل القطارات، سيبقي على انتسابه إلى هذا القطاع، بعد إحالته على التقاعد.
بالكاد يستسلم الصحفيون إلى قانون الطبيعة في الإحالة على المعاش، وتراهم في بلدان ذات تقاليد راقية في هذا المجال، يؤلفون الكتب ويحاضرون في المعاهد ويقدمون خبراتهم، لا فرق بين من كان يشتغل على الملفات السياسية أو الظواهر الاجتماعية والتقلبات الاقتصادية.
منذ زمان قيل في أعمار الناس وحياتهم إنهم يظلون شبابا مادامت عقولهم شابة. وفي مؤسسات إعلامية هناك شيوخ بعقول شابة يترصدون الأخطاء والهفوات. وسمعت من قيدوم الصحافة المغربية قيد حياته المحجوب الصفريوي، أن من يخطئ في كتابة الجمل المفيدة يندر أن يصبح صحفيا، قبل أن يتراجع اللغويون أمام أستاذية الكومبيوتر الذي يقول أخطأت لمن أخطأ دون حرج.
في آخر لقاء، صارحني الصحفي الودراسي، في رحلة قطار قصيرة أنه كان يأمل لو تأخر إنصافه وحيازته مبلغا ماليا، كتعويض جبر الضرر عن معاناته من اعتقال تعسفي ظالم، قال إنه كان يقضي أوقاته متنقلا بين الإدارات ذات الصلة، باحثا أين وصل ملفه. ولأن طرافته جزء من شخصيته، أضاف أنه بدأ يكتب عن أشواط رحلاته بين المكاتب، لاستقصاء ملفه من بين ملفات أخرى. أما وقد نال ما جادت به معايير هيئة الإنصاف والمصالحة، فإنه لم يعد يجد ما يفعله بفائض الوقت الذي تراكم بين يديه.
قال أيضا إنه يقرأ الصحف كلها بدون متعة. وغاب عنه أنه سجن نفسه في وحدته. ولم ألمح الراحل الودراسي يسير إلا وحيدا. لا يخالط الناس، كأنما يخشى على نفسه من الذوبان. فقد رافقته محنة الاعتقال مثل زواج كاثوليكي، حتى وهو يطوف بأرض الله الواسعة، لا يسمع سوى صوته. وقد يكون أخلف موعدا ملحا مع الكتابة عن تجربته تلك التي رغب في تناسيها، لكنها لم تترك له حيزا من مكان النسيان في النصف الآخر من الذاكرة الذي يتجدد في لحظات الصمت والعزلة.
كتب كثيرون عن العزلة، ولعل أقساها عندما تراجع الإحساس بأن المرء يعيشها وسط الناس وحركة المجتمع. فالبعض يلجأ إليها لاتقاء شر الآخرين، والبعض يريدها استراحة من عناء الأيام. إلا أنها تضغط كثيرا عندما يتحول الشخص إلى شبه آلة، يفعل الشيء ذاته كل يوم وتصبح الطقوس محسوبة على إيقاع التكرار.
ارتبط الودراسي بالصحافة، كما لم يفعل مع أي هواية أو نزوة أو عمل، حتى أنه عندما تعرض لخيبة أمل حيال علاقة عاطفية، سخر قلمه والصحيفة التي كان يكتب فيها لتوجيه رسائل الاستعطاف إلى من أحب، وحين لم يتلق جوابا، انعطفت نبرته في اتجاه آخر، أقرب إلى فضح أسرار الحياة الخاصة. وقد جلبت عليه هذه العلاقة متاعب انتهت باعتقاله وسجنه في ظروف بالغة القسوة.
قد يكون لهذا السبب أو غيره كف عن الكتابة عن نفسه. فالكتابة الذاتية أبعد ما تكون عن جلب المعاكسات والمتاعب، لكنها في أمور خصوصية لا تقبل نشر الغسيل على أعمدة الصحافة. وفي كل مرة حاولت مباغتة الزميل الودراسي بأن يحكي قليلا عن تجربته، يتيه وراء التحليق بعيدا، ولا يقول شيئا غير إبداء الأسف.
لا أعرف بالتحديد نوعية الرابط بين حالتي العاطفة والاعتقال، فقد كان الودراسي كتوما يتحدث في كل شيء، إلا عن معاناته تلك. ومع أنه لم يفرق بين الخصوصي والعام، عندما كان يكتب في صحيفة تصدر شمال البلاد، بعد مروره بالعمل في جريدة «لوبينيون» ثم استقراره نهائيا في مؤسسة «ماروك سوار». ففي هذه الحالة كان يضع مسافة أطول، وهو وحده كان يعرف لماذا.
يحرص الودراسي على أن يكون دائما في الصف الأمامي لأي ندوة أو مؤتمر أو لقاء. ولا بد أن يشفع ذلك الحضور بطرح أكثر من سؤال. فهو يفتتح المؤتمرات ويكاد يغلقها، لأن يعاند في طرح ما لا يقل عن أربعة أو خمسة أسئلة دفعة واحدة، ولا يهمه في غضون ذلك نوعية الأجوبة. فالأمر بالنسبة إليه ينتهي مع هطل أسئلته.
كل ما يخطر على البال من معلقات يدبجها الزميل الودراسي دفعة واحدة، ويتجنب طابع الإحراج، فقد كان يعنيه أن يضع الكرة في الزاوية الملائمة، كي يتمكن متلقي السؤال من تسجيل إصابة من أقرب نقطة إلى شباك فارغة من الحراسة. ذاك أسلوب في التبليغ يختلف معه كثيرون، لكنه بالنسبة إليه ممارسة مهنية، يعود بعدها الصحفي سالما وربما «غانما» كذلك.
وإذا غاب عن مؤتمر صحفي حول أي قضية، سياسية أو اقتصادية أو رياضية أو تعليمية، فمعنى ذلك أن طبخة المؤتمر ستكون بلا ملح، فقد كان الودراسي ينثر توابله على اللقاءات الصحفية، ويحاجج بقوة في تبرير أجوبة الوزراء أكثر من أسئلة الصحفيين.
عندما أحيل على التقاعد، وجد صعوبة بالغة في التكيف مع واقعه الجديد، وحافظ في ضوء ذلك على تلقف مواعد القطار، كي لا تفوته، وهو يهم بالنزول من أكدال إلى وسط العاصمة الرباط. وحين يأتي وقت الغداء يسابق الزمن للالتحاق بنفس المقطورة. فقد كان يذهب إلى عمل يومي لم يتصور نفسه يوما أنه سيخلفه. وفي كل مرة كان يتحسس بطاقة الصحفي فيجدها في مكانها، لأنه لم يمارس أي مهنة أخرى.