بقلم: خالص جلبي
ليس «أضل» من رجل الدين، عندما يعتلي منبر السياسة فيحلل الأوضاع، مثل الأخرس الذي ينقل عن آخر مهمته الكلام، أو الصيني الذي يريد التحدث بلغة صربية. ولا «أخبث» من السياسي، حينما يلبس مسوح الكهان فيتحدث بالأخلاقيات والمبادئ. وليس «أقبح» من منظر الرجل المخنث أو المرأة المتصابية، لأن كلا منهما لا يؤدي دوره.
«السياسة» تعني الكذب كما صرح بذلك «توني بلير»، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق؛ فصدق، خلاف العادة حينما قال: إن أحاديثنا مع الزعماء العرب تدور على مستويين، فما نقوله بيننا لا نصرح به على الملأ.
والواعظ الأمريكي «جيري فالويل» خرج على الناس يوما، فقال عن محمد صلى الله عليه وسلم: إنه إرهابي. وهو بهذا يمزج بين ثلاثة أمور لا يمكن أن تشكل سوى مركب شديد الانفجار: «كذب السياسة» و«قلة الاطلاع» و«التهور» كمن وضع أصابعه في عش الدبابير الإسلامية، مع الإساءة إلى خُمُسِ الجنس البشري؛ فخسر صدق المتدينين وكسب نفاق السياسيين ألا ساء ما يحكمون.
على كل حال لا يوجد في الإسلام رجال دين، بل علماء، وهم معرضون للمرض السابق نفسه، عندما يتحولون إلى وعاظ السلاطين؛ فلا يغيروا رسم القرآن، ولكن يفسرونه، حسب المسطرة السلطانية، ويحفرون ثغرة في الدين تناسب حجم السلطان السمين.
وتفنيد التهمة السابقة سهل، وهو شغل يجب أن لا نقع فيه في معركة «صراع الأفكار»، كما يقول «مالك بن نبي»، على مبدأ «المرآة العاكسة» التي شرحها «روبرت غرين» في كتابه «شطرنج القوة»، حسب المبدأ 44: إن المرايا خداعة بشكل هائل، لأنها تخلق شعورا بأنك تنظر إلى العالم الحقيقي، والواقع أنك لا تنظر إلا إلى قطعة من الزجاج، فكل شيء مقلوب إلى عكسه.
وفي كتاب مالك بن نبي «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»، توضيح لهذه الآلية الخفية في إدارة كفة الصراع وتسليط الظلال على أفكار بعينها لتشويهها؛ فالثور لا ينتبه إلى من يلعب بالخرقة الحمراء؛ فيقع في النهاية صريعا تحت استحسان الجمهور وصفيرهم وتصفيقهم للمصارع الجسور.
وجرب «أحمد ديدات» سابقا حظه مع «جيمس سواكرت»، حينما دعاه للمناظرة في أمريكا، وكان كلا منهما يحاول أن يثبت للآخر أن دين الثاني باطل، وأن كتابه مليء بالتناقضات؛ فأساءا إلى القرآن والإنجيل معا، وحركا قضايا قديمة بكلمات جديدة، في الوقت الذي نادى الدين، أي دين، إلى التسابق في الخيرات، والاعتراف بالآخر وأن الكون مبني على الاختلاف.
يذكر المؤرخ النمساوي غومبريتش في كتابه «مختصر تاريخ العالم ـ سلسلة «عالم المعرفة» عدد 400 ـ ص 268»، أن خلطة عصر التنوير كانت ثلاثة مبادئ: العقلانية وسماها «المنطق»، مع التسامح والإنسانية. ولكن فقهاء الدين يحاولون بكل سبيل إرجاعنا إلى ما قبل التنوير، لندخل عصر الظلمات وباسم الله.
وحينما كان غاندي في محنته مع المتعصبين من الهندوس والمسلمين، أعلن الصيام حتى الموت، حتى تتوقف أعمال العنف؛ فلما هدأت ثورة الدم، تقدم الهندوسي وهو يبكي، وقال: قتل المسلم ولدي. قال له غاندي: وماذا فعلت أنت؟
قال: قتلته ثأرا لابني.
قال غاندي، وهو بالكاد يستطيع النطق: هل أدلك على طريق يهديك إلى الجنة؟ أن لا تقتله، بل تربي ولده على الإسلام، كما أراد والده أن ينشأ.
عندما كنت في ألمانيا اجتمعت بخليط لا نهاية له من الفرق المسيحية، وكنت أكرر عليهم جملة واحدة: هاتوا لي فقرة واحدة في الإنجيل يقول فيها المسيح عن نفسه إنه الله، فضلا عن عقيدة التثليث ومركب الأقانيم، وأن الله انشطر إلى ثلاثة بدون أن ينشطر، وأن الله ثلاثة ولكنه واحد في ما هو ضد الرياضيات.
كان القوم يصابون بالذهول، لأنهم وجدوا آباءهم على أمة؛ فهم على آثارهم يهرعون، ولم يكونوا معتادين على مواجهة سؤال من هذا النوع. وكان البعض يعترف وهم قلة، وفريق ثان كان يقول: لا مجال للفهم أو العقل في العقيدة، كما اعترفت لي بذلك راهبة بروتستانتية.
ومنهم من كان يماحك، فيقول: جاءت فقرة في أول إنجيل يوحنا: في البدء كان الكلمة وكان الكلمة الله.
ولكن مثله مثل من يريد بناء برج بيزا على ظهر حيوان اللاما، متسلقا جبال الأنديز.
ومن أعجب ما قرأت لقس مسيحي كتابا يقول فيه إن القرآن جاء بألوهية المسيح، مستشهدا بقوله تعالى من سورة الزخرف: «قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين»، وهي جملة شرطية كما نرى. سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون. وهكذا، فالجدل في هذه الأمور يمكن أن يدوم ألف سنة، دون دخول بوابة العلم.
كنت أقول لهم: ألا تتعجبوا من موضوع ألوهية المسيح غير المبرهنة وغير الواضحة في الإنجيل، فمن أين جاءت هذه العقيدة التي تبنتها الكنيسة؟ كانوا يقولون: فماذا تفعل بكلمة أبي الذي في السماوات؟
كان جوابي، إنه لا يزيد على معنى رمزي، وهو أمر علمه لجميع الناس في موعظة الجبل «طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون».
فكل مناد بالسلام، مثل غاندي، ومالكوم إكس، وروزا باركس السوداء، والمناضلة البورمية أوانج سو كايا، وبيرثا فون سوتنر الألمانية، والهندية أراندهاتي روي، وامرأة فرعون، وقرة العين الفارسية، وإميلين بانكيرست، التي قادت مظاهرة في لندن في 18 نونبر من عام 1910م، فضربهن ألف من الشرطة لمدة ست ساعات متواصلة، وماتت سيدتان.
كلهن أبناء الله وبنات الله بالإضافة، وليس الاشتقاق وبالمعنى الرمزي. والإسلام دفعا لهذه الإشكالية برمتها حذفها جملة وتفصيلا، ووضع بدلا عنها كلمة عبد الله.
قد تكون الكلمة في الأصل هكذا؛ فاختلطت على المترجمين من الآرامية إلى اليونانية، أو أنها كانت معنى اصطلاحيا شائعا كما نقول نحن: رب المنزل وربة المنزل، فلا نعني بهما أن المرأة والرجل تحولا إلى آلهة من دون الله يعبدون.
ولكن لا المسلمون يعرفون هذا، لأنهم لا يقرؤون الإنجيل، ولا شهود يهوه وفرق المسيحيين يقرؤون القرآن، فيعرفون المتشابه في روح الرسالة.
نافذة:
المرايا خداعة بشكل هائل لأنها تخلق شعورا بأنك تنظر إلى العالم الحقيقي والواقع أنك لا تنظر إلا إلى قطعة من الزجاج فكل شيء مقلوب إلى عكسه