رجل الثقافة الذي أنقذ مدنا ومآثر تراثية إنسانية
أهو الدكتور المهدي المنجرة، أم المؤرخ السابق للمملكة عبد الوهاب بن منصور من انتبه إلى رجل صامت، يدفن رأسه في قصاصات وكالات الأنباء الأجنبية، ليستخلص منها تقارير إخبارية يصيغها بدقة متناهية.
في تزامن لافت اجتمع عالم المستقبليات المهدي المنجرة والمؤرخ الذي كتب عن تاريخ القبائل في المغرب عبد الوهاب بن منصور، في مقطورة الإذاعة الوحيدة التي أريد لها أن تنافس كبريات المحطات، مثل صوت القاهرة وهيئة الإذاعة البريطانية، واستطاعت رغم ضآلة الإمكانيات والموارد أن تقتفي أثرها. أقله في اختيار الأصوات والانضباط إلى البرامج المكتوبة التي لا مكان فيها للشرود واللغو.
كان بينهما رجل ثالث، سيكون له شأن كبير في ثقافة الفكر الإنساني الذي لا يتقيد بجغرافية المكان. فقد خسرت الصحافة المغربية إعلاميا مرموقا في بداية السنوات الأولى لاستقلال البلاد، وربحه عالم الفكر والفلسفة وتاريخ الحضارات الإنسانية، وربما لا يعرف كثيرون أن المستشار، وزير الثقافة السابق علال سي ناصر بدأ حياته المهنية محرر أخبار في الإذاعة الوطنية، ثم انبرى يختار طريقه إلى مصاف رجالات الفكر والتراث ليصبح من أبرز أعمدة منظمة «اليونسكو» في باريس.
وقتها كانت الكفاءة الفكرية والثقافة والموهبة اللامعة معيارا. ولم يقبل علال سي ناصر أن يكون محررا، إلا في إذاعة يديرها المفكر المهدي المنجرة. كما لم يقبل أدباء وشعراء الانفتاح على الإذاعة، إلا لكونها أعارت الثقافة جانبا أكبر من الاهتمام، قبل أن يحدث الانعطاف الذي سيؤدي إلى القطيعة، حين انكفأت على نفسها صوتا للسلطة، لا يقبل اختلاف الرأي.
ويبقى أن فترة الاشتغال القصيرة التي ميزت مسار المفكر علال سي ناصر في الإذاعة الوطنية، لم تصرفه عن مدارك أوسع وأرحب، أهلته لاحتلال مكانة علمية في المجمعات الأكاديمية الفرنسية والأوروبية والعالمية، من دون أن يفك ارتباطه بعالم الصحافة، لا يتدخل إلا بالقدر الذي تتيحه مبادرات إنسانية وفكرية.
على رغم أن تجربته الغنية كانت تشفع له الإدلاء بالرأي الوجيه، عندما تدلهم الأجواء، لم يكن يتعاطى والمسائل الإعلامية، إلا بمنظور فكري يسمو على غيره من الاعتبارات، وعندما عين وزيرا للشؤون الثقافية على امتداد سنوات من تسعينيات القرن الماضي، أبدى انفتاحا أكبر على المثقفين والإعلاميين، ويعود له الفضل في تجاوز أزمات عابرة مع فرنسا، اختار أن يحلحل عقدتها عبر حضور ثقافي ألقى بظلاله على محور العلاقات السياسية التي اجتازت فترات عصيبة.
سمعت من أكثر من وزير أنه كان يستشيره، بحكم خبرته واطلاعه الواسع على هذا العالم شاسع المساحة. وكان صحفي يتحدر من مدينة وجدة يقول لي دائما إن رجل الفكر علال سي ناصر أفضل من لم يقع عليه الاختيار لتدبير قطاع الإعلام. ولعل الفرصة أضيعت في الربط بين الإعلام والثقافة في حينه.
أكثرية الوزراء الذين جمعوا بين قطاعات أخرى والإعلام، كانوا أكثر ميلا للتعيينات الأصلية، مثل الخارجية أو الداخلية أو الشبيبة والرياضة، وكان الاستثناء الوحيد تمثل في جمع وزير الثقافة محمد الأشعري بين الإعلام وانتمائه الأصلي إلى عالم الشعر والأدب والإبداع. لكن علال سي ناصر سيضع بصماته على تجربة أقرب إلى الإعلام، عندما دعم فكرة اختيار فاس مدينة تراث إنساني، لما كان مسؤولا في منظمة «اليونسكو».
على هدي تجربة سابقة للعلامة محمد الفاسي الذي كان أول وزير للثقافة اهتم بتراث الملحون والموسيقى الأندلسية وفن التراث والمخطوطات، أضفى علال سي ناصر على المشروع الثقافي بعدا عصريا، إذ ينظر إلى المسألة الثقافية من زاوية أنها تعكس حركية المجتمع وتسري في بنياته التقليدية والعصرية. كما تتأثر بأنماط التطورات التكنولوجية والاكتشافات العلمية.
لكنه مثل كافة الذين تعاقبوا على إدارة هذا القطاع، لامس جوانب التقصير التي تضع موازنة الشؤون الثقافية كآخر شيء يتم التفكير فيه، عبر الاكتفاء بالفتات. ولم يكن الوزير الذي سبقه عبد الله أزماني قادرا على تحريك هذه السواكن، على رغم أنه قدم إلى الوزارة من عالم التجارة والأعمال والغرف المهنية.
وبينما أبدى الوزير محمد بن عيسى انفتاحا أكبر على مكونات الجسم الثقافي، بما في ذلك عالم الفنون والإبداعات والتظاهرات الثقافية التي كان يعتبرها عنوان جذب سياسي وثقافي واجتماعي، اهتم الوزير سي ناصر بربط القطاع بمشروع التنمية، وظل يؤرقه الهاجس الحضاري في نظرته إلى المسألة الثقافية، عبر ربطها بالتعليم المنتج الذي ينمي قدرات الابتكار. وربما لهذا السبب وقع عليه الاختيار ليكون محاضرا في المعهد المولوي خلال إحدى الفترات. لكن شغفه بالموروث المشرق في الحضارة الإسلامية، سيجعله في طليعة المدافعين عن الثقافة الإسلامية المنفتحة، وأسهم بجهد وافر خلال مروره بمنظمة «اليونسكو» في العمل على صون مدن ومآثر ومعالم. وأسعفه اطلاعه الواسع على الثقافة الغربية أن يكون خير سفير للدفاع عن صورة حضارة، لطالما تعرضت لأصناف من الاضطهاد، حتى من طرف أبنائها.