رجال من زمن آخر
بعد عمر مديد مليء بالأحداث الكبرى والصراعات والمقاومات والخطط والمحن والمسؤوليات رحل الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الذي كان لقبه عند مخابرات المستعمر الفرنسي أيام الحماية هو “الطنجاوي”.
غادر معترك الحياة بعد سنوات من مغادرته معترك السياسة، بعدما قام بما يمليه عليه الواجب والضمير.
أذكر أنني عندما غادرت السجن زرته في شقته بالدار البيضاء، كنت أعتقد أنني سأجد رجلا متعبا بملابس البيت، لكنني اكتشفت رجلا يشع حيوية رغم تقدمه في السن يرتدي بذلة وربطة عنق.
كانت نصيحته لي هي أن أعاود النهوض وأن أكمل المشوار لأن ما وقع حادثة سير عادية في طريق الصحافة.
الأستاذ اليوسفي ينتمي إلى جيل رحل أغلب رجاله، جيل عاش الحماية والمقاومة وبدايات الاستقلال والصراع مع القصر والصحافة والمحاكمات والاعتقالات والنفي وسنوات الرصاص والمعارضة في الخارج وفي الداخل ثم الوصول إلى الحكومة والمصالحة مع الدولة.
وربما قليلون لاحظوا أنه في كل الصور التي ظهر فيها عبد الرحمان اليوسفي في غرفته بالمصحة كانت الجرائد أمامه، وظهر في أخرى يتصفح بعضها.
هذا يعني أن الرجل ينحدر من سلالة من الزعماء السياسيين لا تستطيع أن تبدأ نهارها دون أن تفتح جرائد اليوم وتشتم رائحة الحبر.
اليوسفي وغيره من القادة السياسيين التاريخيين، سواء اتفقنا معهم أم اختلفنا، لديهم اهتمام خاص بالصحافة والصحف الورقية والصحافيين، وقد كان أغلبهم رؤساء تحرير ومدراء لصحفهم الحزبية.
كان الزعماء مثل علال الفاسي يحترفون الكتابة والتأليف في السياسة كما في الشعر، وعندما مات لم يترك سوى أرض جرداء بأصيلة كلف الحسن الثاني رحمه الله قياديا استقلاليا بتسوية وضعها وإراثتها على الأبناء.
عبد الرحيم بوعبيد كان نائب رئيس مجلس الوزراء وكان وزير المالية والاقتصاد الوطني، وأطلق الدرهم وأسس صندوق الإيداع والتدبير، والبنك المغربي للتجارة الخارجية، وعندما مات لم يخلف وراءه أية ثروة.
الجنرال أشهبار الكاتب العام لإدارة الدفاع الوطني أشرف على تنظيم المسيرة الخضراء، ومات دون أن يخلف وراءه ثروة، عكس جنرالات آخرين في زمنه لم ينظموا في حياتهم سوى رحلات صيد الحلوف وعندما ماتوا اكتشف الناس أنهم كانوا يشغلون باطايونات العسكر في ضيعاتهم دون علم العسكر أنفسهم.
اليوسفي، آيت يدر والآخرون ينحدرون من عهد كان استثنائيا بكل المقاييس. عهد كان يقبل بأكثر التناقضات غرابة، فقد كان بينبين يؤنس الملك الحسن الثاني في لياليه ويطرد عنه الأرق والملل بقصص الأزلية ويهدئ من خاطره بتلاوة القرآن على مسامعه إلى أن ينام، وفي الوقت نفسه كان ولد بينبين يعيش الجحيم في معتقل تازممارت بسبب مشاركته في المحاولة الانقلابية على الملك.
وكان الحاج أحمد بلافريج الوزير الشخصي الممثل للملك ويشتغل يوميا إلى جانب الحسن الثاني، فيما كان ولده أنيس بلافريج محكوما بالسجن المركزي للقنيطرة لمدة سبعة عشر سنة بسبب انتمائه إلى منظمة إلى الأمام.
وكان النقيب بنعمرو معارضا ودخل سجن لعلو بالرباط، فيما أخوه كان إماما وخطيبا بمسجد أهل فاس بالمشور السعيد، وكان الخطيب الذي يصلي بالحسن الثاني في الأعياد، وهو بالمناسبة من خدام الدولة الذي لم يستفد من شيء في الدولة.
لقد صار واضحا أن مياه بحيرة الزمن السياسي المغربي تكدرت وأصبحت ملوثة، وأصبح الجسد السياسي المغربي مصابا بأمراض انتهازية بسبب ضعف المناعة المكتسب لديه، منها مرض الزعامة، ومرض إدمان السلطة واعتبار العمل السياسي ريعا وعملا قارا، ومرض الانشقاق الذي يجعل كل سياسي يسعى لكي يكون الزعيم ويبقى كذلك ولو على جثة الحزب.
لقد نشأ حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد انشقاق في حزب الاستقلال، سنة 1959، بعدما مثل كل من عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة وعبد الرحمان اليوسفي الذراع اليساري لحزب الاستقلال، حين مغادرتهم الحزب التاريخي لعلال الفاسي وحسن الوزاني وأحمد بلافريج وأحمد الغزاوي.
بدوره، ساهم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في تأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، سنة 1975.
سنة 1983، عرف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية انشقاقا جديدا، من خلال تأسيس حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي.
سنة 2001، حدث انشقاق جديد داخل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بعد عقد المؤتمر الوطني الاتحادي من طرف عبد المجيد بوزوبع.
سنة 2005، حدث انشقاق آخر داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وتأسس الحزب العمالي من طرف عبد الكريم بنعتيق.
أما التجمع الوطني للأحرار، الحزب الإداري الذي تم تأسيسه من طرف أحمد عصمان بقيادة إدريس البصري، بعد انتهاء الانتخابات التشريعية سنة 1977، فقد عرف سنة 1982 أول انشقاق داخل التجمع الوطني للأحرار، بقيادة أرسلان الجديدي وعبد الله القادري، لتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي.
سنة 2001 حدث انشقاق آخر داخل حزب التجمع الوطني للأحرار، تم بموجبه تأسيس حزب الإصلاح والتنمية من طرف عبد الرحمان الكوهن.
وبعد أزيد من 30 سنة على رأس التجمع الوطني للأحرار، أُطيح بأحمد عصمان سنة 2007 على إثر انقلاب قاده بنطالب، الذي اعتقله البصري في إطار حملة التطهير وصادر ممتلكاته، بعدما نصب مصطفى المنصوري على رأس هذا التشكيل السياسي.
بنطالب افتعل أيضا صراعا داخل حزب التجمع الوطني للأحرار، لإجبار مصطفى المنصوري، المسنود بأخيه الجنرال المنصوري، الذي عصفت به كورونا من منصبه، على مغادرة الحزب سنة 2010 والدفع بصلاح الدين مزوار على رأس الحزب، عقابا له على رفض “تبييض” يساريي وإقطاعيي “حركة لكل الديمقراطيين” وتذويبهم داخل طنجرة الأحرار، مما أدى إلى تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة.
سنة 1983 تم تأسيس حزب الاتحاد الدستوري، من طرف المعطي بوعبيد، وهو أحد الأعضاء البارزين السابقين في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ووزير أول سابق تسببت شيخة في دفعه في درج فيلا شهدت سهرة راقصة، فسقط وتكسرت ساقه وأصابع قدمه فنقل إلى أمريكا للعلاج ومكث هناك ستة أشهر فلما عاد وجد مغربا آخر.
سنة 2002 حدث انقسام في حزب الاتحاد الدستوري وتم تأسيس الحزب المغربي الليبرالي، من طرف محمد زيان. وقد بلغ حجم الاحتقان بين زيان وهو وزير لحقوق الإنسان وبين أمالو وزير العدل وبين وزير ينتمي لنفس حزب زيان حدا أصبحت معه المجالس الحكومية حلبة تشبه حلبة صراع الديكة بين هؤلاء الوزراء الثلاثة، خصوصا أثناء حملة التطهير التي كان مكتب زيان ينوب فيها عن أحد المتابعين، فكان المجلس الحكومي مناسبة لزيان لكي يشن هجومه على البصري وزير الداخلية وأمالو وزير العدل، فما كان من الوزير الأول سوى أن يقول لزيان إن الملك يطلب منه تقديم استقالته، ورغم هذا الطلب عاد زيان وزير حقوق الإنسان إلى حضور المجلس الحكومي ولم يقدم استقالته إلا عندما جدد الوزير الأول طلبه في المجلس. آنذاك لم يبق أمامه بد من أن يقدمها، ومن ذلك الوقت وهو يدعي أنه أول وزير تجرأ على تقديم استقالته.
وفي سنة 2006 حدث انشقاق آخر داخل الاتحاد الدستوري، تأسس بموجبه الاتحاد المغربي للديمقراطية، من طرف الوزير السابق عبد الله أزماني.
وسنة 1996 تم تأسيس الحركة الديمقراطية الاجتماعية، من طرف الكوميسير السابق محمد عرشان بعد انشقاق حدث في حزب الحركة الشعبية.
وفي سنة 1997 تم تأسيس حزب جبهة القوى الديمقراطية من طرف التهامي الخياري بعد انشقاق حدث في حزب التقدم والاشتراكية.
وفي سنة 2008 تم تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة، وهو خليط سياسي مكون من خمسة أحزاب سياسية مغربية، يتعلق الأمر بالحزب الوطني الديمقراطي، وحزب العهد وحزب البيئة والتنمية، وحزب رابطة الحريات، وحزب مبادرة المواطنة والتنمية.
وتذكر نشأة هذا الحزب بنشأة حزب رضى كديرة “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” والمعروف اختصارا بـ”الفديك”.
الفرق بين الحزبين هو أن كديرة عندما أسس هذا الحزب استطاع أن يحكم به في العام الأول، فيما الأصالة والمعاصرة مر على تأسيسه أكثر من عشر سنوات دون أن يتمكن من الوصول إلى قيادة الحكومة.
المشكلة اليوم أن الناس لا تقرأ التاريخ ولا تعرف أن التاريخ عندما يعاد بشكل قسري فإنه يتحول إلى ملهاة.
وحتى بعض الشباب الذين يرفعون شعارات اليسار اليوم بكثير من الحماسة الجوفاء يعتقدون أن مجرد استشهادهم بعبد الرحيم بوعبيد أو بنبركة يشفع لهم لكي يكونوا قادة ثوريين، وهذا أيضا أحد أمراض الجسد السياسي المغربي.
وعندما خرق نائبان في فدرالية اليسار البروتوكول وأتيا إلى افتتاح البرلمان معتمرين طربوشين أبيضين عوض الشاشية الحمراء مثلما درجت العادة فقد اعتقدا أنهما حققا ثورة داخل البرلمان.
والحال أن البرلمان لو كان فيه من يحرص على احترام البروتوكول لما سمح لهما بالدخول، وما على هذين النائبين سوى أن يتأملا أعضاء مجلس اللوردات عندما يفتتحون مجلسهم بلباسهم التقليدي هل يسمحون لنائب لا يحترم البروتوكول بالدخول.
ولأن البرلمان أصبح سائبا فإننا أصبحنا نرى نوابا يأتون إليه بالصرفاقة، وآخرين ينزعون فيه أحذيتهم ويضعون أرجلهم فوق الكراسي المقابلة كما لو كانوا في حديقة عمومية.
وعندما يقول عمر بلافريج، الذي نتمنى له الشفاء العاجل بعد العملية التي أجراها على القلب مؤخرا، أنه دخل البرلمان بسلهام عبد الرحيم بوعبيد فإنه ينسى أن يشرح لرفاقه والناس الذين صوتوا لأجله حكاية السلهام ذاك.
ففي افتتاح البرلمان كان عبد الرحيم بوعبيد الوحيد بين كل البرلمانيين الذي حضر إلى البرلمان بكوستيم عوض السلهام والشاشية، وكان ذلك بحضور الملك الحسن الثاني الذي لم يرقه الأمر، فأرسل الملك في الغد سلهاما إلى بوعبيد لم يلبسه قط.
مرت السنوات فطلب عمر بلافريج السلهام من عائلة بوعبيد لحضور مناسبة عائليه، غير أنه لبسه وذهب به إلى افتتاح البرلمان، ربما لأن البرلمان عندنا أصبح عائليا “نيت”، مما دفع علي بوعبيد ابن عبد الرحيم إلى إعلان انزعاجه من “تنقاز” ولد بلافريج الذي لم يكن يوما لا في العير ولا في النفير، وإنما ظهر اسمه سنة 2011 عندما انتقد مشروع التيجيفي في فرانس 24، وتشكلت لجنة داخل حركة عشرين فبراير ورفعت شعار جميعا ضد التيجيفي في إحدى مسيراتها.
ومن ذلك اليوم وهو يرفع شعار “لا للتيجيفي”، وها هو التيجيفي يطير بين الدار البيضاء وطنجة في رمشة عين ويحقق الأرباح ويتزاحم المسافرون لحجز مقاعد فيه.
مما يؤكد أن الشعارات لا تصنع مستقبلا وأن الزعامة تتطلب بعد النظر وجرعات كبيرة من الوطنية ونكران الذات والتواضع والعفة، وهي خصال أصبحت نادرة في رجال السياسة اليوم.
رحم الله الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي وأسكنه فسيح جناته ورزق أهله ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.