رجات أرماز.. الحقوقية المغربية التي حولت السوداني الفيتوري إلى شاعر غزل عذري
حسن البصري
قضت رجات أرماز ربع قرن من الارتباط بالشاعر السوداني محمد الفيتوري. في نهاية الثمانينات كان اللقاء وقبل أن تنسحب الثمانينات كانت رجات تتأبط ذراع محمد أمام سفارة السودان في المغرب لاستكمال إجراءات الزواج بتزكية من مأذون دبلوماسي.
لم تصغ رجات لتحذيرات صديقاتها ولم تعر اهتماما لـ«فيتو» العائلة، التي لم تعترض على قرار الزواج بأحد رواد الشعر في الوطن العربي، لكنها أبدت مخاوفها من فارق الزمن الذي يقارب ربع قرن، فقد ولد الفيتوري سنة 1936 بدارفور جنوب السودان، بينما ولدت رجات في العاصمة الرباط سنة 1961، وتابعت دراستها الجامعية في كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس.
ولأنها من فصيلة حقوقية، فقد أعلنت رجات موقفها بكل جرأة وأعادت على مسامع المجلس الأعلى لقوات التصدي، مبدأ «الحق في اختيار شريك»، فكان لها ما أرادت، خاصة وأن أرماز عشقت أشعار الفيتوري قبل أن تراه، وحين وقفت على مدى عشقه للمغرب، قررت أن تدوس كل علامات التشوير التي تحذرها من الوقوف على رصيفه، أو تلك التي تطلب منها تخفيض السرعة قبل اتخاذ قرار حاسم.
كانت تعرف أن الرجل عاش محنا حقيقية دون أن يسل قلمه لكتابة شعر النقائض، فمنذ أن تخرج من جامع الأزهر بالقاهرة، وهو يعيش حكاية «سبع صنايع والرزق ضايع»، إذ عمل محررا بالصحف المصرية والسودانية، وعين خبيرا للإعلام بالجامعة العربية، ثم عمل مستشارا ثقافيا في السفارة الليبية بإيطاليا، وبعدها مستشارا بالسفارة الليبية ببيروت، ثم مستشارا سياسيا وإعلاميا بسفارة ليبيا بالمغرب، وظل يتوصل براتب شهري من ليبيا قبل أن يسقط نظام القذافي ويسقط الراتب وتضيع العلاوات.
عاشت رجات سنوات القهر مع زوجها الشاعر، كانا يضمدان جراح الزمن الجاحد، بقصائد شعرية تتحول أحيانا إلى «هامبرغر» يغني عن وجبة عشاء، ويخلقان الألفة الأسرية بوجود ابنتهما «أشرقت» اليافعة، التي تكتب الشعر بالفرنسية، على الرغم من المرض الذي ظل يمارس غاراته بين الفينة والأخرى، على محمد، حيث أصيب ثلاث مرات بجلطة دماغية.
تقول الزوجة المغربية إنها لم تندم لحظة على قرارها التاريخي، وتعترف بالدروس التي استخلصتها من هذا الاقتران، «تعلمت منه القوة والصبر والمثابرة، أنا جد سعيدة ومسرورة باهتمامي به في مرضه، أقرأ له الشعر متعمدة الخطأ كي أختبر ذاكرته، لكنه يطلب مني تصحيح ما قرأت، قائلا: كل شيء مسموح به، إلا الخطأ في الشعر. كان يعاني من كسر في ساقه، يشاهد التلفزيون أحيانا، لكنه للأسف منقطع عن الكتابة. كنا نعيش بما لدينا من مدخرات قليلة، ثمة اهتمام شعبي كبير من السودان ومن رفاقه السودانيين المقيمين في المغرب، وأنا ممتنة للجميع، بمن فيهم المغاربة».
انتبهت الحكومة السودانية إلى إغفالها لشاعر العرب المغترب، فاستخرجت له جواز سفر دبلوماسيا، وحضرت مكونات السفارة إلى بيته في سيدي عابد لتسليم الجواز للشاعر الدبلوماسي، دون أن يجرؤ أحد على طرح السؤال الجوهري المستفز للمشاعر: «كيف يقتات الفيتوري؟».
في الرابع والعشرين من أبريل الماضي، انتقل الفيتوري إلى دار البقاء، لفظ الشاعر أنفاسه الأخيرة في مستشفى الشيخ زايد، حيث كان يعالج على نفقة محسن إماراتي. مات وهو مبتسم منفرج المحيا، وقبل أن يسلم الروح لبارئها قبل يد زوجته المغربية وطلب منها الصفح. وحين كان الجثمان في ثلاجة مخزن الأموات، دار سجال قوي بين أعضاء سفارة السودان وزوجته المغربية، التي اعترضت على دفنه في السودان، وأصرت على أن يوارى جثمانه في الرباط وتحديدا بمقبرة «الشهداء». لقيت الزوجة مساندة من بعض أفراد الجالية السوادنية وعلى رأسهم الصحافي طلحة جبريل.
صاحت أرماز في وجه موظفي السفارة: «سيدفن الفيتوري حيث فاضت روحه لأن وصيته كانت واضحة «أرض الله واسعة.. أدفن حيث أموت»»، سيما بعدما استفزها السفير في المستشفى بعبارة لاذعة «أنت مهمتك انتهت»، وكأن زوجته كانت مجرد ممرضة. اصطف في خندق الزوجة المغربية أبناء الفيتوري الأربعة من زوجته الفلسطينية، إضافة إلى ابنته «أشرقت»، علما أن للراحل ثلاث «سوابق» في عالم الزواج، حيث ارتبط بفلسطينية ورزق منها بأربعة أبناء (ولدان وبنتان)، وسودانية وله منها ابن وبنت، ثم المغربية رجات ورزق منها بابنته «أشرقت».
في سنة 2012 تناقلت الصحف شائعة وفاة محمد الفيتوري، فاضطر إلى كتابة بيان حقيقة يقول فيه: «رجاء لا تحفروا قبري».