شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

«راعي الماعز المغربي».. أول فيلم صُور في المغرب سنة 1897

أفلام أجنبية صُورت بالمغرب ووصلت إلى العالمية قبل أكثر من قرن

يونس جنوحي

«ربما يبقى من سخرية الأقدار أن يكون أول فيلم جرى تصويره في المغرب يحمل في عنوانه عبارة «الماعز».

يتعلق الأمر بفيلم «Le Chevrier Marocain» وهو فيلم للمخرج الفرنسي Louis Lumière، ويعود تصويره إلى سنة 1897، أي قبل 127 سنة من اليوم!

هذا الفيلم كان صامتا بطبيعة الحال، وكان عبارة عن صور متحركة بالأبيض والأسود توثق لدقائق من حياة راعي الأغنام المغربي بالصورة التي ينظر به إليها الأجانب.

الفيلم يبقى توثيقيا أكثر منه نقلا لوقائع درامية أو قصة سينمائية.

مع بداية القرن العشرين، تحول المغرب إلى مسرح لتصوير الأعمال الأجنبية، فرنسية وأمريكية على وجه الخصوص. الجنسيتان معا احتكرتا بشكل واضح تصوير الأفلام.. وهذه قصص أبرزها، سواء منها التي صُورت أو الأخرى التي لم يُكتب لها أن تكتمل..»

 

كيف تعرف المغاربة على عالم التصوير والسينما

الشائع أن بدايات التصوير السينمائي في المغرب تعود إلى سنة 1897، عندما صور المخرج الفرنسي «لويس لوميير» شريطا صامتا مدته بضع دقائق، حياة رعاة الماعز المغاربة. هذا الفيلم نقل لأول مرة صورا متحركة للحياة في المغرب. وتوالت بعده أشرطة أخرى، فرنسية وبريطانية على وجه الخصوص، وثقت لحياة المغاربة ونقلت قصص الحياة اليومية للمغاربة قبل أن تنتشر ثقافة السينما ويبدأ تصوير الأعمال السينمائية العالمية في المغرب مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي.

ظهور الكاميرا في المغرب سبق محاولة التصوير الأولى لصاحبها المخرج الفرنسي، الذي سوف نأتي إلى قصة فيلمه في هذا الملف، إذ يعود بالضبط إلى ما بعد 1894، السنة التي وصل فيها السلطان الشاب المولى عبد العزيز إلى الحكم خلفا لوالده المولى الحسن الأول، أول سلطان علوي تُلتقط لموكبه الرسمي صورة فوتوغرافية بالمعنى الحقيقي للصورة باستعمال آلة تصوير.

ظهور الكاميرا في المغرب يعود، إذن، إلى عهد المولى الحسن الأول، لكن استعمال الكاميرا بين المغاربة لم يظهر إلا في عهد المولى عبد العزيز.

هذا السلطان، الذي نُسجت حوله الحكايات بحكم حداثة سنه عندما تقلد السلطة، كان يهوى التصوير، ولم يتمالك نفسه عندما رأى الكاميرا لأول مرة ورأى كيف يتم استخراج الصور التي التقطت له داخل القصر الملكي بفاس. وهكذا حصل على الكاميرا الأولى الخاصة به وشرع في التقاط الصور لنساء القصر وأفراد العائلة ووضع لها إطارات وُزعت على مختلف غرف القصر. هذا على الأقل ما أورده صديقه الصحافي هاريس، صاحب «المغرب المنقرض»، وأشار إليه أيضا «أرنو»، صاحب «المحلات السلطانية». فالأول عاش مع المولى عبد العزيز سنوات كوّن خلالها صورة واضحة عن الشخصية الحداثية للسلطان الشاب الذي كان مختلفا تماما، وهذا أمر طبيعي، في أفكاره عن بقية خُدام المخزن الذين ورثهم عن والده.

لكن ظهور التصوير السينمائي في المغرب كان عليه أن ينتظر لسنوات أخرى، خصوصا وأن بعض العلماء أفتوا علانية بتحريم التصوير والتقاط الصور، قبل أن يتم التراجع عن تلك الفتوى، ويبادر العلماء أنفسهم إلى التقاط الصور عند مصورين محترفين وتعليقها في جدران منازلهم. غير أن تقبل فكرة السينما في المغرب كان عليه أن يؤجل بدوره لسنوات أخرى، (أزيد من عقدين).

ما يهمنا في هذا الملف هو قصص الأعمال الأجنبية التي جرى تصويرها في المغرب، وقبل أن يصير تصوير الأعمال السينمائية، التي يظهر فيها الممثلون ونجوم الشاشة الأوروبيون والأمريكيون، صُورت في المغرب أفلام توثيقية سجلت حياة المغاربة مع بداية القرن العشرين، وكان مصيرها أن تُحفظ في أقسام الأرشيف، خصوصا في لندن وباريس، والمرجح، أيضا، أن المغاربة، الذين كانوا أبطالا لتلك الأفلام التوثيقية، لم يشاهدوها نهائيا.. إذ لم يتم الكشف عن الأفلام المسجلة في المغرب قبل 1920، إلا قبل سنوات قليلة، عندما وُظف بعضها في أفلام وثائقية عالمية عرضت على منصات عالمية أخيرا، في حين أن باحثين مغاربة اطلعوا على معظمها خلال زياراتهم الأكاديمية إلى المكتبات الرسمية في أوروبا منذ ثمانينيات القرن الماضي.

كواليس مشروع أول وثائقي عن المغرب بالألوان قبل 73 سنة  

الرجل، الذي فكر في محاولة تصوير أول فيلم وثائقي عن المغرب بالألوان، والذي كانت زوجته صحافية في الرباط وتعمل في «راديو ماروك»، مشرفة على ساعات البث باللغة الإنجليزية، كان حالما.

يتعلق الأمر بزوج الصحافية «إلينيور كينيدي»، التي كان اسمها شائعا جدا بين أفراد الجالية الأمريكية في المغرب، سيما المقيمين منهم في الرباط والقنيطرة داخل القاعدة الأمريكية. كانت هذه الصحافية تخاطب الأمريكيين بلغتهم، في ساعات بث محددة أسبوعيا وتقدم نشرات الأخبار والوصلات الترفيهية الموجهة إلى الجنود الأمريكيين، من قلب إذاعة تشرف عليها فرنسا داخل المغرب.

قصة الفيلم كتبت عنها الصحافية الأمريكية «مارفين هاو»، التي اشتغلت بدورها في الإذاعة نفسها، خلال مقامها في المغرب بين سنتي 1950 و1953، وكانت أيضا تراسل كبريات المجلات والصحف الأمريكية من الرباط، وعاشت مع الزوجين الأمريكيين حُلم إخراج الفيلم الوثائقي عن الحياة في المغرب وأجواء الاحتفال بالأعياد الدينية عموما.

سبق أن انفردت «الأخبار» بسبق حوار مطول مع الصحافية الأمريكية «مارفين هاو»، البالغة من العمر اليوم 94 سنة عاشت خلالها تجارب مثيرة وغنية في الصحافة، وتطرقت في المذكرات إلى قصة هذا الفيلم.

كان السيد كينيدي جاء إلى المغرب بناء على ما سمعه من حكايات زوجته عن احتفالات المغاربة بالمناسبات الدينية، وأراد تصوير أجواء ما كان يعرف وقتها بـ«الهدية» التي كانت تقام لأربعة أيام متتالية احتفالا برمضان. وكان ذلك آخر رمضان قضاه الملك الراحل محمد الخامس مع أسرته في المغرب قبل المنفى.

وبينما كان السيد كينيدي يستعد لدراسة مكان الاحتفال وتحديد الأماكن التي سيقف بالكاميرا فيها لالتقاط مقاطع فيديو لطقوس «الهدية» بالتنسيق مع موظفين في القصر الملكي ليكون قريبا جدا من منصة الملك الراحل محمد الخامس، إذا بـ«مارفين» تنقل له خبر اعتزام الصدر الأعظم تلاوة خطاب قصير يخبر فيه المغاربة أن الملك الراحل لن يُحيي تلك الاحتفالات في الرباط لأسباب صحية، وهكذا ألغي الاحتفال.

كان السيد كينيدي أخبر من طرف الجميع بأنه يتعين عليه أن يكون صبورا لأن احتفالات أخرى قادمة في الطريق، وأنه سوف يصور أجواء «الهدية» على الطقوس المخزنية في مناسبات أخرى بدون شك، سيما وأن إقامته في المغرب كانت مطولة لأن زوجته كانت تعمل مع «مارفين» في «راديو ماروك».

لكن الخيبة، التي أحس بها، كانت كبيرة وهو يطالع خبر نفي الأسرة الملكية لأنه أضاع فرصة تصوير تلك الطقوس الرمضانية، ولم يكن لديه استشراف مستقبلي عن المدة التي سوف تقضيها الأسرة الملكية في المنفى.

كان السيد كينيدي ينوي تصوير أفلام وثائقية بالألوان لعدد من الاحتفالات الدينية، لكن خيبته كانت كبيرة بعد دخول المغرب في أجواء المنفى، لأن المغاربة، كما هو معروف، امتنعوا عن ذبح الأضاحي بوجود ابن عرفة في القصر الملكي احتجاجا على نفي السلطان محمد بن يوسف، فضلا عن أن الوطنيين لعبوا دورا كبيرا في تجييش الناس للامتناع عن إحياء الاحتفالات.

 

 

 

 

هذا أقدم فيلم صُور في المغرب ومخرجه فرنسي

لم يكن سهلا أبدا تصوير فيلم سينمائي في مغرب القرن 19 وبداية القرن العشرين.

ففي الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يكتبون أن المغرب يعيش في القرون الوسطى، لم يكن سهلا أبدا تصور إنجاز فيلم سينمائي في المغرب، خصوصا وأن مسألة «الأمن» ورفض المغاربة للوجود الأجنبي في بلادهم، كلها كانت مؤشرات لاستحالة مباشرة تصوير فيلم سينمائي في المغرب، سيما وأن هناك رفضا رسميا للوجود الفرنسي في البلاد.

إلا أن المخرج الفرنسي «لويس لوميير»، كان له رأي آخر، وجاء إلى المغرب رغم النصائح التي تلقاها حتى لا يبدأ مشروع التصوير وتوصيات المفوض الفرنسي الذي كان يقيم في طنجة الدولية.

بعض الفرنسيين اعتبروا الأمر تهورا في البداية، لكن المخرج الفرنسي تمكن من تصوير بعض مشاهد فيلمه الصامت، والذي يحكي قصة راعي ماعز مغربي ويركز في مشاهده على تصوير الرعاة المغاربة وهم يرعون القطعان في السهول، ولم تتجاوز مدته سوى دقائق قليلة. وكانت هناك توقعات بأن يتعرض فريق التصوير لاعتداء، خاصة وأن القبائل المغربية كانت أغلبها ضد الوجود الأجنبي في المغرب.. لكن لم يقع أي اعتداء ولم تصب الكاميرا، التي جُلبت خصيصا عبر سفينة قادمة من مارسيليا، بأي ضرر.

يُرجح، أيضا، أن يكون وزراء مغاربة وراء نجاح التصوير. ففي ذلك الوقت، كان المولى عبد العزيز محاطا بوزراء من إرث الصدر الأعظم القوي باحماد. وهذا الوزير الأول كان معروفا بعطفه على بعض الفرنسيين الذين زاروا المغرب في الفترة ما بين 1894 و1900. ووصى بنفسه أن يُعاملوا جيدا ويقدم لهم الوزراء والأعيان والقياد ما يحتاجونه خلال رحلاتهم داخل المغرب. حتى أن بعثات فرنسية وفر لها هذا الوزير ما يلزم من الخيول والعلف والمؤونة والحراسة، لقطع الرحلة بين فاس والدار البيضاء.

هذا العامل شجع المخرج «لويس» على خوض تجربة إخراج فيلمه القصير في المغرب. ويمكن اعتبار هذا الفيلم واحدا من أولى الأفلام الفرنسية في القارة الإفريقية وليس في المغرب فقط.

المُلاحظ أن تصوير هذا الفيلم لم تعقبه أية محاولة أخرى للتصوير داخل المغرب، سيما في ظل الظروف السياسية العصيبة التي مرت منها البلاد.. لكن طنجة الدولية شهدت عدة محاولات لتصوير أفلام صامتة، ووثق بعض المقيمين الأجانب في المدينة، باختلاف جنسياتهم، للحياة اليومية في طنجة، وهذه التسجيلات يمكن اعتبارها أولى المحاولات التوثيقية في المغرب واعتمدت لاحقا في أفلام وثائقية أجنبية أعدت عن تاريخ المغرب.

ضخامة الكاميرا كانت أكبر عرقلة في وجه المخرجين الأجانب الذين فكروا بعد 1897 في العمل على مشاريع سينمائية في المغرب. ومع توالي السنوات، خصوصا بعد فرض الحماية الفرنسية سنة 1912، وتأسيس الإدارة في الرباط وإطلاق مكاتب ومديريات فرنسية، صار سهلا على الفرنسيين والمُخرجين الأجانب من جنسيات أخرى، الراغبين في تصوير مشاهد في المغرب، الحصول على الرعاية اللازمة، وهو ما تحقق فعلا في الأفلام الفرنسية التي صُورت بالمغرب بداية الثلاثينيات من القرن الماضي. ولعل أشهر فيلم أثار ضجة عند تصويره نهاية الأربعينيات هو «الوردة السوداء» الذي اتُهم مخرجه الأمريكي بتصوير مشهد حقيقي يُظهر جثمان مغربي أعدمه الجيش الفرنسي، واعتُبر المشهد انتهاكا لحُرمة الموتى.

الوردة السوداء.. الفيلم الذي جرّ العار على السينما العالمية

توظيف السواد في عنوان الفيلم ربما كان توقعا استشرافيا من مُنتجي العمل، الذي يعتبر تعاونا بين الولايات المتحدة وبريطانيا، على النهاية التي سيؤول إليها.

الفيلم يحكي قصة وقعت أحداثها في الشرق الأوسط، لكن بعض مشاهده صُورت في المغرب.

ثلاثون ثانية من مدة الفيلم الذي كانت مدته الأصلية تبلغ 121 دقيقة، هي سبب اللعنة التي أصابت الفيلم ومُخرجه، وتسببت في سحب عنوانه من الترشيحات لعدد من الجوائز لاحقا.

ما وقع أن المخرج عندما كان يصور مشاهد لفيلمه في المغرب سنة 1949، كان يحتاج إلى مشهد جثة معلقة إلى شجرة بعد إعدامها، وهو المشهد الذي من شأنه أن يخدم قصة الفيلم.

وبحكم أن تصوير الفيلم في المغرب كان يستوجب أولا الحصول على ترخيص من الإدارة الفرنسية، كان بعض العسكريين الفرنسيين حاضرين في محيط مكان التصوير لتوفير الحماية لفريق العمل أولا، وأيضا لمراقبة أجواء التصوير وإعداد تقارير مفصلة عنها تُرفع إلى الإقامة العامة، مخافة أن يضر الفيلم بمصالح فرنسا وسياستها في المغرب.

عندما علم أحد كبار الضباط الفرنسيين برغبة المُخرج في تصوير ذاك المشهد، فكّر في «إهدائه» جثة حقيقية، ولكي يظهر هذا الضابط، واسمه لويس مورين، كرمه أمام فريق العمل الأمريكي والبريطاني، أعطى التعليمات لشنق رجلين مغربيين كانا معا يرتديان الجلباب المغربي، وكانا معتقلين من طرف الأمن الفرنسي على خلفية موجات الاعتقالات التي كانت قوات الجيش الفرنسي تباشرها في القرى والمداشر المغربية.

أعدم الرجلان شنقا بعد أن نصبت المشنقتان على جذع شجرة ضخمة، ونودي على المخرج لكي يصور لقطته، وأمامه جثتان لا واحدة.

وفعلا تم له الأمر واستمر المشهد لثلاثين ثانية في الفيلم، لكن المخرج لم يضع أية إشارة إلى أن الجثامين حقيقية.

بعد العرض الأول للفيلم في لندن ونيويورك، تسبب الأمر في أزمة كبيرة في الصحافة، عندما سرب بعض أفراد فريق العمل سر نجاح لقطة الإعدام، وأكدوا للصحافيين أن الأمر لا يتعلق بأي مؤثرات أو استعمال للدمى كما كان شائعا في ذلك الوقت، وإنما يتعلق بشخصين حقيقيين شُنقا على شرف المخرج بأمر من ضابط عسكري فرنسي كان في موقع التصوير.

ما أن انتشر الخبر حتى أصبحت شركة إنتاج الفيلم في ورطة حقيقية أمام الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا، وشاعت تهديدات عن احتمال مقاطعة الفيلم وإقصائه من منصات التتويج، وهو ما جعل فريق الإنتاج الأمريكي يلجأ في الأخير إلى حل لتقليل الخسائر، وهذا الحل يقضي بحذف ثلاثين ثانية من الفيلم و«قصِّها» من الشريط الأصلي حتى يُسمح بالاستمرار في عرض الشريط في دور السينما حول العالم.

بطلة فيلم حاصرتها سيول ورزازات ثمانية أيام أثناء التصوير

الواضح أن ورزازات لم تكن وِجهة مفضلة للتصوير خلال السنوات الأربعين الأخيرة وحسب، بل إنها كانت كذلك قبل استقلال المغرب أيضا.

ولولا أن الكاتب البريطاني برنارد نيومان لم يزر المغرب سنة 1952، ويصدر كتابه «المغرب اليوم»، لربما لم تصل هذه الكواليس أبدا إلى القراء، مغاربة كانوا أو أجانب.

يتعلق الأمر بكواليس تصوير واحد من أشهر الأفلام الأمريكية للمخرج «أورسن ويلز». الإنتاج كان أمريكيا بحكم جنسية المُخرج، لكن بعض الكواليس تقول إن الفيلم ما كان ليحظى بالدعم لولا مشاركة بريطانيين كانت لهم تجارب سابقة في التصوير في المغرب، وعملوا على تذليل الصعاب التقنية أمام الفريق الأمريكي، وتوفير المعدات التي كان صعبا شحنها من الولايات المتحدة صوب المغرب.

من كواليس هذا الفيلم أيضا، والتي نُشرت في مجلات فنية متخصصة، أن المخرج استعان بتقنيين فرنسيين كانوا على دراية بجغرافيا البلاد، ليساعدوا على تسهيل مهمة تصوير الفيلم في نواحي ورززات.

زيارة الكاتب البريطاني «برنارد نيومان» إلى ورززات، في بداية سنة 1952، تزامنت مع فترة التصوير. ورغم أنه لم يلتق المخرج، إلا أنه وجد أصداء كواليس تصوير الفيلم لا تزال «طرية» وحكاها له ضابط فرنسي كان حاضرا في الموقع قبل أيام قليلة فقط على وصول الكاتب البريطاني. يقول:

«في ورززات رحب الناس بالمطر. لقد فات الأوان لكي تستفيد منه المحاصيل الزراعية، لكن الماء نعمة في كل الحالات.

قال لي ضابط فرنسي هناك:

-«لا مشكل. من الممكن أن يهطل المزيد من المطر. هل ترى النهر الصغير لدينا؟ بعد موسم ممطر وحيد فقط، سوف يصب فيه الماء بقوة إلى أن تغمر المياه الواحة كلها. دوامة من المياه على امتداد ميل واحد.

فاجأت المياه أيضا المُخرج السينمائي «أورسن ويلز» عندما كان هنا لتصوير بعض المشاهد من فيلم «الفستان الأسود».

حدث أن الممثلة الشابة، التي تقوم بدور البطولة، كانت في قرية على الضفة الأخرى من الوادي عندما ارتفع منسوب المياه، وبقيت عالقة هناك لثمانية أيام! وأؤكد لك لم تحدث أي حيلة دعائية، ولا بد أن العرقلة كانت مكلفة للغاية».

-«وماذا قال السيد ويلز؟»

-«لقد تأسفتُ كثيرا لأنني لا أفهم الإنجليزية!».

هذه التجربة جعلت الكاتب البريطاني يُلقي الضوء على علاقة المغاربة بالسينما بداية الخمسينيات، خصوصا وأن المغاربة وقتها بدؤوا يتآلفون مع وجود الكاميرات، وشهدوا تصوير أفلام فرنسية -على وجه الخصوص- في شوارع المغرب. يحكي عن هذه الجزئية قائلا: «لم أقض كل وقتي في الدار البيضاء في دراسة العديد من مشاكلها الخطيرة.

أتذكر أنني كنت أرى الشبان المحليين -وبعض النساء المحجبات- يقفون جميعا في الصف لحجز مقاعد لمشاهدة فيلم اسمه «Les nudes de Paris» (عُراة باريس)».

وفي حيز آخر من الكتاب، قدم الكاتب بعض الإشارات إلى الثقافة السينمائية في المغرب، وكتب يقول: «اجتاحت قاعات السينما المغرب. لكن وجودها لا يزال محصورا في المدن فقط. وبينما تُعرض الأفلام الفرنسية، الأمريكية والبريطانية، فإن المغاربة يفضلون الأفلام المصرية، ليس لأنها أفضل، ولكن لأنها أفلام باللغة العربية.

شاهدت فيلما أو فيلمين من هذا النوع. الموسيقى كانت مُملة إلى ما لا نهاية. وكانت «الدراما» ذات توجه سياسي، يُكرس النظرة المناهضة للأجانب. ومن المرجح أن يتكرر هذا الأمر في الأفلام الأخرى، ويمكن أيضا أن يكون له تأثير يتجاوز الخواء الفني لهذه الأفلام».

 

شريط صُور في المغرب سنة 1951.. وحاز سعفة «كان»

لم يكن فيلم «الفستان الأسود» العمل الوحيد للمخرج الأمريكي «أورسن ويلز»، الذي صُور في المغرب، بل صوّر قبله أيضا عملا آخر تدور أحداثه حول شخصية من شخصيات «شكسبير» الشهيرة، بلمسة من القرن العشرين.

الفيلم، الذي يحمل عنوان «Othello»، أي «عُطيل» كما جرى تعريبها أثناء ترجمة أعمال الكاتب البريطاني شكسبير المسرحية، حصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي.

وإذا كان الفيلم الأول لهذا المخرج توقف تصويره في ورززات بسبب السيول التي حاصرت بطلة الفيلم، فإن فيلمه الثاني «عطيل» كان فأل خير على المخرج والشركة المنتجة له، فقد كان الفوز في مهرجان كان السينمائي بمثابة التأشيرة التي جعلت مُخرجين آخرين يتوجهون رأسا من الولايات المتحدة إلى المغرب لتصوير أعمالهم السينمائية.

جاء في أحد المقالات النقدية المرتبطة بهذا الفيلم، والتي نُشرت في أكثر من مجلة متخصصة في السينما سنة 1955، أن جزءا من نجاح الفيلم يعود فيه الفضل إلى أجواء التصوير في المغرب والمشاهد التي تظهر المعمار المغربي، الذي يرتبط لدى المشاهد الأجنبي بالشرق وحكايات «ألف ليلة وليلة».

ليس هذا فحسب، بل إن المخرج الأمريكي نفسه تحدث في حوارات مع الصحافة الأمريكية عن تجربة التصوير في المغرب، وعدد مزايا التصوير وغنى المشاهد والديكور والملابس المحلية التي كان يرتديها أبطال الفيلم، ودورها في إضفاء لمسة خاصة على المشاهد جعلت الفيلم يحظى بالجائزة متفوقا على أفلام أخرى صورت في مدن أوروبا والولايات المتحدة.

هذا النجاح قاد أمريكيا آخر هو المخرج «تشارلز ماركيز» ليُخرج فيلم «رحلة جوية إلى طنجة»، وكان مُلصق الفيلم وقتها لوحده حاز نجاحا مبهرا وأحرز ثناء النقاد. اعتمد المخرج على وصفة توظيف المشاهد المغربية، وعندما صدر الفيلم سنة 1953، اعتبره النقاد الحدث الثقافي للسنة بامتياز..، خصوصا وأن الصحافة الأمريكية اهتمت بالفيلم لكونه يتناول موضوع «طنجة» التي ترتبط في مخيال أغلب الأمريكيين بزمن الجاليات الأجنبية.. إذ إن طنجة كانت محطة أساسية في رحلة كل الأمريكيين الذين جابوا العالم بحرا. ورغم أن بعض مشاهد الفيلم لم تُصور في المغرب، إلا أن توظيف «طنجة» في العنوان أثر بشكل إيجابي على أصداء الفيلم في السينما الأمريكية، وهو يُعتبر أحد أهم الأعمال السينمائية في خمسينيات القرن الماضي، بالنظر إلى قصة الفيلم والأجواء التي ينقلها.

هذا الفيلم خدم السياحة في المغرب بشكل كبير، قبل الاستقلال، إذ ظهر فيه أبطال الفيلم وهم يتناولون الطعام المغربي ووراءهم خلفيات للمعمار المغربي، وكان عرضه في القاعات دافعا قويا للأمريكيين خصوصا ليشدوا الرحال إلى المغرب ويعيشوا تجربتهم الشخصية في طنجة، محاكاة لقصة الفيلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى