رئيس الجزائر.. صحفي في بيتنا
شيء من الطرافة وبعض من الإيقاع البريء بزملاء المهنة يحضران دائما على لسان وتصرفات الصحفي الامين زروال، حتى أنه أعلن طلاقه مهنة المتاعب وذهب ليحكم الجزائر. قال، في معرض قفشاته إن الفرق بينه والرئيس ليامين زروال لا يزيد عن ضغم الألف التي تحولت إلى ياء. وفي أسرار اللغة العربية ما يعين على احتساب المسافة بين البداية والنهاية، من الألف إلى ياء.
أي رحلة يمشي فيها الزميل الامين زروال تكون ممتعة، وأي غرفة يقطنها في أسفار الحل والترحال تصبح منتدى يختلط فيه الجد بالهزل. فهو من النوع الذي يخلع جديته بمجرد أن ينتهي من ديباجة متابعة إعلامية، يحرص على أن تكتب بعربية فصيحة لا مكان فيها إلى اللحن أو التأويل. وأسعفه حفظه القرآن الكريم في سبر معانيه الإعجازية في الصرف والنحو والكتابة، حين يحدث اختلاف حول المكان اللائق بالهمزة، لكنه من القلائل الذين لم يعملوا بمنطق «الهمزة» في التسلق أو تحسين وضعه الوظيفي. فالهمزة عنده لا تكون إلا في الكلمات.
شدتني وإياه رفقة جميلة إلى سلطنة عمان لمتابعة وقائع قمة خليجية، عرفت وقتذاك بانتشار أهازيج وأغنيات تمجد الانتساب إلى المنظومة الخليجية فكرا والتزاما ووحدة. ولأنه لا يضع نفسه إلا في المكان اللائق تنامت أصفار على يمين فاتورة الإقامة، بخفقة جسارة طمأنني إلى أن الحلول ما وجدت إلا للمساعدة في تجاوز أي مأزق. ومن غيره يجد لكل نهر نبعا ومصبا.
في التفاصيل أن الامين محدث لبق يقتحم المجالس من الوهلة الأولى، ويخلف انطباعا بأنه صديق الجميع. يستعير الحكم العربية وروائع الشعر وطرائف المجالس، لذلك فقد انزوى إلى مسؤول العلاقات الخارجية، ووجه له دعوة مفتوحة لزيارة المغرب، تاركا له حرية اختيار توقيتها، شكره المسؤول على لطفه وتقديره وأقفلت الصفحة.
في لقاء ثان، أصر عليه أن يحضر العائلة، مؤكدا أن زيارة المغرب لا تكتمل من دون جمع العائلة، ومن باقة لأخرى في سلسلة الحديث الذي ينساب بتلقائية، اقتطف الامين بيتا من أشعار المتنبي جاء فيه:
«غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا».
تعجب المسؤول العماني أي هوان لحق به، فرد بتؤدة أن ضيوف المغرب لا يدفعون فلسا واحدا، إذ يصبحون أهل البيت والضيف مضيفا، فما كان من رجل العلاقات إلا التأكيد بأن ضيوف السلطان قابوس ينطبق عليه نفس التقليد. وكانت تلك كلمة السر التي بددت الفاتورة الباهظة في رمشة عين. غير أن الزميل الامين لم ينس رد الجميل لذلك المسؤول، ووسط صداقاته من أجل توجيه دعوة إليه لزيراة المغرب، وكذلك كان.
لا يبقى من الرحلات الصحفية إلا نتف الذكريات، ومع أنه كان يعمل في مؤسسة إعلامية رسمية، تقع تحت نفوذ زواجهما غير الكاثوليكي، فقد انهال مرة في زيارة إلى لندن بوابل النقد اللاذع على الوزير الذي تجاوز اختصاصاته، وشاركته نفس القناعة، لنكتشف في اليوم الموالي أنها صرنا «منبوذين» من الشلة. لكنه اختصر العذر بالقول أمام رؤسائه بأن ذكر عيوب الناس جزء من الواجب المهني. فقد كان يجد لكل مأزق مخرجا، إذ يمزج بين الطرافة والجدية، على غرار أن الحمقى والأولياء لا جناح على كلامهم ولاهم يحزنون.
اخترع الامين زروال طريقة فريدة في قراءة الصحف، كان يبدأ بها مشوار الرحلات. واقتطف يوما من الراحل مولاي علي العلوي فقرة تقول بالحرف الواحد، أما آن لإيران أن تعود لعروبيتها، فضحك الجميع لأن الكاتب سها أن إيران فارسية ولا تربطها بالعروبة إلا أطماع دفينة. فقد كان يبحث دائما عن تحف الصحافة، ويقدمها على طريقته بما يثير الطرافة والتسلية. لكنه أثناء العمل يكون إنسانا آخر، صارما ومتزنا لا ينساق وراء الأهواء.
كان يحيل مرضه على كتفه ولا يبالي، فالطبيب يشعر المرء بضعفه، وإن لم يكن فبتقدمه في العمر، وحلول أداء الفواتير المستحقة، جراء المغامرة والإهمال والاعتقاد الخاطئ بدوام الشباب.
أرادت صديقة طبيبة أن تمازح بتشخيص منسوب ضغط دمه، وكاد يغمى عليه حين رست عقارب الآلة على آخر عنقود المخاطر، بينما كان الأمين يمازحها ولا يأبه. وقال إن الإدمان على زيارة الأطباء لا يختلف عن أي معضلة مماثلة تحيل على فقدان الإرادة، لكنه مع تزايد إكراهات الحياة اضطر لإجراء أكثر من عملية توجت بالنجاح.
في مساره المهني المتميز بالتواضع وثقافة النميمة غير المؤذية، طرق الامين عوالم عديدة، وجرب خريج معهد الصحافة في تونس أن يدلف إلى عالم التظاهرات الثقافية، يبحث عن الكفاءات والمشاهير لاستقدامهم إلى مهرجانات حاشدة، استفسرته مرة إن كانت الصحافة تقود إلى رعاية الحفلات، فرد قائلا إن رعاية الحفلات هي ما يقود إلى الصحافة أحيانا.
في غضون ذلك، لم يخلف مواعد مع الآخر الذي يسكنه، فهو في عمقه يميل إلى أن يكون صوفيا متعبدا. انحاز إلى الطريقة البوتشيشية التي يعرف أصولها ورجالاتها وطقوسها. وحين يغادر «الزاوية» يكون برفقة أحد رجالات المقاومة. يعاود الإصغاء إلى تاريخ آخر لم يكتب بعد. بيد أنه افتقد كثيرا من حيوية الشباب، وبات قلائل يشد إليهم أصدقاء أوفياء.. فقد استبدل صحافة الكتابة والتحليل بصفحة العلاقات العامة التي ينثر عبر حدائقها طرائفه ولطفه وأحزانه أيضا.