رؤوسنا ليست لنا
ممدوح حمادة
في أواخر السبعينيات أو أوائل الثمانينيات، كان الشاري حين يريد أن يشتري سمنا يسأل أولا للتأكد إن كان هذا السمن مهدرجا أم لا، فإن أجابه البائع بنعم هز الرجل رأسه، معربا عن اطمئنانه واشترى السمن. وهو محق في ذلك، لأن مئات الإعلانات التي تم بثها من أجل تسويق هذه البضاعة الخطيرة أوهمته بأن السمن المهدرج هو السمن الصحي، ولم يقل له أحد إنه بتناوله هذا السمن إنما يفرش طريق الجلطة بالحرير.
الإعلان التجاري لا يقدم للمستهلك معلومات حقيقية، إنه يتسلل إلى العقل الباطن، ويجعله يدفع صاحبه إلى التوجه إلى هذه البضاعة. يقول روبرت هيث في كتابه «إغواء العقل الباطن» ما معناه، كلما زاد انتباهنا للإعلانات زادت قدرتنا على معارضة رسائلها، لذلك لا بد أن تتوفر في الإعلان عناصر تضليل لآليات الدفاع تلك، وذلك بالاعتماد على العواطف التي تربط المُنْتَج بعقل المستهلك، من دون أن تسمح له بمناقشة ذلك المُنْتَج وتشريحه. وفي كتابه «بروباغندا»، يقدم إدوارد بيرنيس معلومات دقيقة عن الضخ الإعلامي الذي حصل في الولايات المتحدة من أجل السيطرة على عقول الجماهير، سواء في المجال السياسي أو في المجال التجاري، وهو يعتبر ذلك ضرورة للمجتمع الديمقراطي، حيث يقول: «يعد التلاعب الواعي والماهر بعادات الجماهير وأذواقها جزءا مهما من المجتمع الديمقراطي. يتم تشغيل هذه الآلية الاجتماعية غير المرئية من حكومة غير مرئية، وهي القوة الحاكمة الحقيقية في بلدنا. نحن محكومون، وعينا مبرمج، وأذواقنا محددة سلفا، وأفكارنا مقدمة لنا، ويتم هذا كله بشكل أساسي من أشخاص لم نسمع بهم من قبل».
أما التلاعب بالعقول فيبلغ أوجه في مجال الإيديولوجيات والعقائد، فإن كان الإعلان التجاري يقودك إلى شراء بضاعة فاسدة، فإن العقائد والإيديولوجيات تقود العقول إلى شراء مواقف وسلوكات، وتجعل الجمهور وقودا في أتون سعير أفكار محددة تجعله الدعاية يعتقد أنها حقائق مطلقة، وكثيرا ما يكتشف هذا الجمهور خطأ هذه الأفكار أو عدم صحتها بالشكل الذي كان يعتقده، فيندم ساعة لا ينفع الندم.
على الصعيد اليومي، يتعرض الإنسان إلى عمليات تسلل إلى عقله الباطن، منذ أن يفتح عينيه صباحا إلى أن يغمضهما ليلا عبر وسائل الإعلام التي لا تنقطع عن العمل 24 ساعة في اليوم، وعبر الجمهور الواسع المتأثر بهذه الوسائل، والذي يحول مقولاتها مع الزمن إلى أشباه قوانين عليك التعامل بها.
في يونيو1967 في أثناء التشريقة السورية الصغرى، كنا نتجاوز الحرش، كل يحمل على ظهره حصيره وفراشه، وكان هناك رجل يحمل راديو ترانزستور كلما صدح عبره مارش عسكري يصيح: «سمااااع الناطق العسكري سيتحدث»… وكان الجميع يصمتون، ويتوقفون عن الحركة لوقف أي تشويش على الناطق العسكري، الذي سرعان ما يعلن أن سربا من طائرات العدو اخترق مجالنا الجوي فتصدت له وسائطنا المضادة للطائرات، وأسقطت سبعين طائرة. أو أن قواتنا شنت هجوما معاكسا دحرت فيه العدوان، فيصيح الجميع «الله أكبر.. الله أكبر»، بمن فيهم الجنود الهاربون بيننا بعد أن تخلصوا من أسلحتهم… كان سحر الناطق العسكري أقوى من كل الحقائق التي نعيشها بشكل مباشر.
رؤوسنا ليست لنا إلا عند الحلاق، حيث نملك إمكانية اختيار شكل القصة. كنت أعتقد ذلك قبل أن يقدم حلاق حينا على حف شعر رأسي على الشفرة في لحظة شرود كانت تنتابه.