ذكريات تأسيس قسم التوثيق بالتلفزة المغربية التي انطلقت بدون أرشيف للأخبار والقصاصات
يونس جنوحي
التقنيون والمخرجون المغاربة الأوائل الذين اشتغلوا في التلفزة المغربية، بقوا أوفياء لـRTM، وبعضهم لم يستطيعوا الاستمرار للأسف.
عثرنا لكم على أحدهم، واسمه محمد البيهي، اشتغل في التلفزة المغربية سنة 1962، بعد أن حصل على دبلوم في فرنسا بعد حصوله على الإجازة الجامعية في الأدب الفرنسي، وقرر أن يستفيد من تكوين في تخصص الأرشيف. في صيف سنة 1962، تخرج بتقدير جيد، وفضل أن يحمل حقيبته ويأتي إلى الرباط لكي يبحث عن عمل في مبنى مسرح محمد الخامس حيث كان مقر التلفزة المغربية.
لم يكن هناك أرشيف لكي يشتغل عليه محمد البيهي، الذي ذهب إلى العالم الكبير الفقيه المختار السوسي لكي يتوسط له للعمل في التلفزة المغربية. يحكي هذه الذكريات متحدثا لـ«الأخبار»:
«أذكر جيدا أنني جئت إلى المغرب في يوليوز 1962. وبحكم أن والدي رحمه الله كان من أعيان مدينة أكادير، فقد طلبت منه في رسالة أرسلتها له من باريس قبل موعد سفري، أن يتحدث لي مع الفقيه المختار السوسي ويرى إن كان بإمكانه أن يتدبر لي موعدا لتقديم أوراقي لمسؤولي التلفزيون لكي أعمل في تخصصي، إذ كنت حاصلا على إجازة في الأدب الفرنسي بالإضافة إلى شهادة عليا في تخصص التوثيق والأرشيف، وهذا التخصص مطلوب جدا وقتها في مجال الصحافة.
وفعلا عندما دخلت إلى المغرب، أخبرني والدي رحمه الله أن الفقيه المختار السوسي اتصل هاتفيا بأحد أصدقائه في الرباط وحصل لي على موعد مع نائب مدير التلفزة الذي كان وقتها حسب ما أذكر هو السيد عبد الله غرنيط.
ركبت السيارة رفقة والدي من أكادير وجئنا إلى الرباط وبعد يومين من الانتظار استقبلني مدير ديوان السيد عبد الله غرنيط وأخبرني أن سيادة المدير ليس متفرغا لاستقبال أحد. وعدنا نجر خيبتنا.
وبينما كنت أتجول وحيدا في شوارع الرباط التقيت شابة فرنسية كانت قد درست معي في الجامعة وأخبرتها بالقصة، ووعدتني أن تتصل بسيدة فرنسية مقربة جدا من أسرة السيد غرنيط الذي علمت في ما بعد أنه متزوج من سيدة فرنسية. وفعلا تدخلت لدى أسرة سي غرنيط واتصلت بي الصديقة الفرنسية لتخبرني أن آتي في الصباح الموالي لكي أبدأ تدريبا في مقر الإذاعة المغربية».
التلفزة المظلمة
يواصل محمد البيهي، الذي يقيم الآن في فرنسا بعد أن شيد مسارا حافلا في مجال شركات بيع خدمات التوثيق للمؤسسات، وهي التجربة التي أطلقها في سنة 1972، قبل أن يتقاعد حاليا في الجنوب الفرنسي ويشرف على جمعية تُعنى بتقديم المساعدات إلى القرى في منطقة الأطلس. يستعيد ذكرياته مع التلفزة المغربية، قائلا: «جئت في الموعد المحدد، ووجدت مدير ديوان المدير عبد الله غرنيط ينتظرني بعد أن دون اسمي في ورقة فوق مكتبه. صافحني وأخبرني أن لديه تعليمات من السيد المدير العام للتلفزة، بأن أبدأ تدريبي في الإذاعة المغربية بحكم أن لديهم أرشيفا مهما يمكن أن أشتغل عليه في مرحلة التدريب، وأخبرني أنهم اتصلوا بأحد مسؤولي الإذاعة لكي ألتحق بهم. قدمت له سيرتي الذاتية وطلبت منه أن يساعدني لكي أشتغل في تخصصي وهو التوثيق، وشرحت له أن هذا التخصص يتيح لي العمل على وضع الصور والتعليق عليها وترتيبها لاستعمالها في نشرات الأخبار للتلفزيون لكن صدمتي كانت كبيرة جدا عندما قمت لاحقا بجولة في الطابق الرابع بمسرح محمد الخامس والطابق الثالث أيضا، واكتشفت أن العاملين في التلفزة المغربية ليس لديهم أي مخزون من القصاصات التي تدربنا عليها في فرنسا أثناء التكوين، ولم يكن التلفزيون المغربي يتوفر على ما يكفي من الصور الضرورية لعرضها في نشرات الأخبار كما كان حال التلفزيون في فرنسا. كان الأمر محبطا لي، لأني لم أجد أي صدى للمقترحات التي كتبتها في ورقة بالآلة الراقنة ووضعتها فوق مكتب ديوان السيد المدير.
قضيت فترة تدريب في مقر الإذاعة تجاوزت ستة أشهر، وأذكر أن المسؤولين في الإذاعة منحوني عن تلك الفترة مبلغا ساعدني قليلا على تدبر أموري في الرباط. وخيروني بين الرحيل أو الاستمرار في التدريب إلى أن يتقرر مصيري.
وهنا قمت بوضع طلب لدى مكتب مدير التلفزيون، وتم السماح لي فعلا ببداية العمل في مقر التلفزة، وكان سلاحي وقتها تقريرا من مسؤولي الإذاعة يثنون فيه على مهاراتي في التوثيق وترتيب المقاطع والتقارير وإعدادها في أرشيف مرتب يسهل الوصول إليها لاحقا.
بدأت العمل في التلفزة المغربية منتصف سنة 1963، وعشت أبرز الأحداث التي غطاها التلفزيون المغربي لأول مرة وأولها رحلة الملك الحسن الثاني إلى الجزائر في تلك السنة. إذ كان هناك ضغط كبير على العاملين في التلفزة لنقل الزيارة الملكية الأولى للملك الحسن الثاني إلى الجزائر بمناسبة حصول جيراننا على الاستقلال من فرنسا. وكانت التعليمات تقتضي تخصيص البث للزيارة الملكية ونقلها لكي يشاهدها المغاربة على التلفزيون.
كانت مهمتي تبدأ بعد نهاية بث النشرات، إذ كان يتعين علي ترتيب النشرات المكتوبة بطريقة تسهل الوصول إليها حسب الترتيب الزمني، وتحميض الصور التي تصلنا إلى مقر التلفزة، لكي يتم عرضها في المواد الإخبارية بالإضافة إلى تسجيل قصاصات وكالات الأنباء. وأذكر مرة أن مدير التلفزيون سنة 1965 أثنى عليّ كثيرا لأنني تمكنت في زمن قياسي من استخراج قصاصة تقدم معلومات عن مسار مسؤول فرنسي رفيع لكي تعرض في نشرة الأخبار ويتلوها مقدم النشرة.
أتحدث لك عن زمن لم يكن فيه الأنترنت موجودا، وبالتالي فإن الحصول على المعلومات والأخبار كان مهمة صعبة جدا.
بقيت أعمل في التلفزة المغربية إلى أواخر الستينيات، وبالضبط سنة 1969، حيث وضعت استقالتي يوم 12 دجنبر، وقررت أن أعود إلى فرنسا لمواصلة دراستي العليا لأضع نقطة نهاية لعلاقتي بالعمل التلفزي في المغرب».
محمد البيهي لم يكن مطلعا على خبايا العمل الصحافي في التلفزة المغربية، وإنما عمل في تأسيس قسم الأرشيف رفقة أسماء أخرى اعتبرت من الجيل الأول المؤسس لـRTM. ليست هذه هي النهاية، فلديه في جعبته المزيد.