ذكريات التلفزيون المغربي المنسية:قصة قناة «تيلما» التي بثت في المغرب لـ15 شهرا
تنفس الأمريكيون الصعداء أواخر سنة 1961 عندما تأكد لهم أن المغرب لن يجري نهائيا أي صفقة بخصوص مشروع التلفزيون مع الاتحاد السوفياتي.
كان التخوف الأمريكي نابعا من كون المغرب قد سبق له اقتناء طائرات عسكرية مقاتلة من السوفيات بموجب اتفاق عسكري وقعه الملك الراحل محمد الخامس مع الرئيس الروسي، وكانت تلك الاتفاقية أهم ما وقعه الملك الراحل بعد استقلال المغرب سنة 1956.
خاف الأمريكيون من أن يتكرر السيناريو مع الملك الحسن الثاني الذي جلس على العرش يوم 3 مارس 1961، وأن يوقع بدوره اتفاقا مع الروس، خصوصا وأن المخابرات الأمريكية رصدت تحركات سوفياتية في الرباط للفوز بصداقة الملك الشاب.
عندما تأكد الأمريكيون أن الملك الحسن الثاني ينوي الاحتفاء بأول ذكرى لجلوسه على العرش، وبث خطاب تاريخي إلى المغاربة بالصوت والصورة، تخوفوا من أن يكون المهندسون الروس قد دخلوا على الخط.
لكن عندما ورد تقرير للمخابرات الأمريكية، قال فيه ضباط CIA إن مسؤولين مغاربة عينهم الملك الحسن الثاني للإشراف على مشروع التلفزيون المغربي، قد قاموا باقتناء سيارة بث إيطالية مستعملة، لكي يُطلق منها البث التلفزيوني يوم 3 مارس 1962، تنفس المسؤولون في السفارة الأمريكية بالرباط الصعداء، وتأكد لهم بالملموس أن الروس لم يفوزوا بأي صفقة مع المغرب.
كفاءات مغربية
النقطة الثانية التي تخوف منها الأمريكيون، أن يقدم الروس مهندسي التلفزيون السوفيات هدية إلى المغرب. وهو ما لم يتم أيضا. إذ أن المغرب كان يتوفر وقتها، أي سنة 1961 و1962، على كفاءات مغربية حقيقية في مجال الإعلام. إذ كان الراديو المغربي يتوفر على كفاءات مغربية سبق لهم الاحتكاك بالمهندسين الفرنسيين في البث والبرمجة. ويكفي معرفة أن أول بث على أمواج الراديو لمحتوى باللغة العربية كان سنة 1933، بعد أن كانت انطلاقة الراديو فعليا في المغرب سنة 1928. أي أن البث باللغة العربية ودخول المغاربة إلى الراديو كان بعد سنوات قليلة فقط على إطلاق تجربة الراديو في المغرب. وهذا ما مكن من حصول المغرب على كفاءات محلية في البث، تمت الاستعانة بهم في إطلاق التلفزيون، بعد أن كان أول استوديو خُصص للبث التلفزي في المغرب، مجرد مساحة صغيرة في مسرح محمد الخامس، قبل أن يتم تخصيص استوديو في الدار البيضاء، بعين الشق، في نفس السنة، أي 1962، وتنطق مراحل تهييء مرافق التلفزيون المغربي وتطويره.
عندما علم الأمريكيون أن مشروع التلفزيون المغربي الذي تسرب خبر الإعداد له أواخر سنة 1961، بعد عودة الملك الحسن الثاني من زيارة إلى فرنسا خلال الأشهر الأولى لاعتلائه العرش، لم ينطلق بالصورة التي كان ينتظرها الملك الحسن الثاني، علموا أن قطاع الإعلام لم يكن يدخل في إطار القطاعات التي يرغب الملك الحسن الثاني أن يتدخل فيها الأجانب.
الانطلاقة المتعثرة للتلفزيون المغربي اعترف بها وجه إعلامي مغربي معروف، هو المذيع محمد بن ددوش، والذي أكد في مذكراته «قصة حياتي مع الميكروفون»، أن التلفزيون المغربي انطلق بصورة متواضعة جدا، ولم تكن الانطلاقة في حجم الحدث الذي كان يتصوره المغاربة وقتها. وشهادة بن ددوش، كانت أيضا تأكيدا لما أورده عملاء المخابرات الأمريكية CIA، حيث تحدث بن ددوش في مذكراته في فقرة مقتضبة، عن حافلة البث المستعملة التي تم اقتناؤها من إيطاليا، وعن الأستوديو الصغير الذي تم إنشاؤه في ركن من مسرح محمد الخامس.
بالصوت.. ثم بالصورة
هل كان البث التلفزيوني ممكنا في المغرب سنة 1962؟ نعم بطبيعة الحال، وكان أرشيف الراديو المغربي يتوفر على دراسة فرنسية أنشئت في ثلاثينيات القرن الماضي، أكدت من خلال أبحاث مهندسين فرنسيين، أن إنشاء بث تلفزي في المغرب أمر ممكن.
لماذا اهتم الفرنسيون إذن بأمر البث التلفزيوني في المغرب منذ الثلاثينيات؟
لقد كانت الإقامة العامة الفرنسية ترغب في إنشاء مشروع تلفزيوني أطلقت عليه اسم «TELMA». هذه التلفزة الفرنسية كانت موجهة في الأساس إلى الرعايا الفرنسيين في المغرب، لكن لا توجد معلومات كافية عن سبب تأخر إطلاقها منذ الثلاثينيات، حيث أنجزت الدراسة، إلى منتصف الخمسينيات، حيث تم إحياء الفكرة من جديد.
الرعايا الفرنسيون كانوا يشتكون من عدم وجود خدمات التلفزيون في المغرب، خصوصا وأن الفرنسيين وقتها كانوا مأخوذين بل منبهرين بالتلفزيون الفرنسي الذي بدأ ينتشر في المنازل الفرنسية ويحصد اهتمام الفرنسيين.
كان الرعايا الفرنسيون في المغرب يتوصلون برسائل وصور من عائلاتهم في المدن والقرى الفرنسية يحكون لهم فيها عن البرامج والسهرات التي يستمتعون بها في «الديار»، بينما هم في المغرب لم يكونوا قادرين على الاستفادة من تلك الخدمات بالصوت والصورة. وهكذا تقرر أن يتم إنشاء مشروع تلفزي في المغرب، وتم إخراج دراسة «TELMA» من الرفوف. وفعلا انطلقت تلك التجربة بعد أن تم استيراد أجهزة تلفزيون وزعت على منازل مسؤولين في الإقامة العامة الفرنسية وبعض الفرنسيين المحظوظين، لكي يطلق لهم بث تجريبي لمواد بالصوت والصورة.
التنقيب في الأرشيف لا يقدم أي معلومة دقيقة عن التاريخ الفعلي، أي باليوم والساعة، لإطلاق تجربة «تيلما» المنسية. لكن بعض الصحافيين الفرنسيين أرخوا لإطلاق القناة يوم 28 فبراير 1954.
لكن التجربة لم تستمر طويلا، وامتدت لـ15 شهرا فقط. تعليق خدمات هذا التلفزيون الفرنسي المغربي، تم يوم 20 ماي 1955، وكان يوما حزينا للفرنسيين في المغرب.
لماذا لم تستمر تجربة هذه التلفزة المنسية؟
كان الأمر مرتبطا بالإرادة السياسية لدى الفرنسيين في المغرب، إذ أن الأجواء وقتها كانت تتجه نحو إعلان استقلال المغرب، كما أن التطورات السياسية لم تكن في صالح فرنسا، خصوصا بعد عودة الملك الراحل رفقة الأسرة الملكية من المنفى في مدغشقر إلى باريس استعدادا للعودة النهائية إلى المغرب.
هذه التطورات في الساحة المغربية، علّقت مشروع توسيع هذا البث التلفزيوني الذي لم يستفد منه إلا قلة فقط من المحظوظين الفرنسيين، ليتوقف دون أن يترك الفرنسيون وراءهم أي أثر لتجهيزات للبث التلفزي أو «لاقطات» لتعميم البث في باقي مناطق المغرب. لكن ما يُحسب لهذه التجربة التلفزية، أنها جعلت المغرب يدخل التاريخ باعتباره أول بلد عربي وإسلامي يشهد بثا تلفزيا في أجوائه.