ذر “الرميد” في العيون
في الوقت الذي كان فيه مصطفى الرميد، وزير “العزل” وما تبقى من حريات، يؤشر على صفقات تغيير آثاث مكاتب كبار مسؤولي وزارته، كان الملك محمد السادس يتلقى شكايات مواطنين مغاربة وأجانب ويطالع المقالات التي صدرت في الصحف، وعدد كبير منها نشرته جريدة “الأخبار” التي اجتهد الوزير وحاشيته مرارا في محاولة فاشلة لإخراسها، تكشف تغول مافيا السطو على العقارات مقابل بطء شديد في وتيرة النظر القضائي في ملفاته.
لذلك صدر الأمر الملكي للرميد لكي تعد الوزارة خطة لمواجهة العمليات المتكررة للسطو على عقارات الغير، خصوصا الأجانب، بعدما تراكمت وتناسلت على نحو ملحوظ وأصبحت تلطخ صورة المغرب في الخارج.
إن الرسالة الملكية الموجهة إلى الرميد تلخص حال قطاع العدل بأكمله، بتأكيدها على أن الاستيلاء على عقارات الغير أضحت ممارسة متكررة يدل عليها عدد القضايا المعروضة على المحاكم وتعدد الشكاوى المقدمة حولها والأخبار المتواترة التي توردها الصحافة بشأنها.
إن تدخل الملك، وهو الضامن لاستقلال السلطة القضائية ورئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، لتصحيح المسار المتعثر الذي أخذه الملف، بعد ركوب وزير العدل عليه سياسيا وعجزه المزمن عن محاربة مافيا السطو على عقارات الأجانب، ومحاولته ذر “الرميد” في العيون بالتحول إلى طاشرون لبناء وإصلاح مقرات المحاكم عوض إصلاح منظومة القضاء، هو أكبر دليل على أن كل الخطابات والشعارات التي ظل ينثرها الرميد بمناسبة وغير مناسبة مستعرضا حصيلة مزعومة لوزارته في مجال إصلاح منظومة العدالة هي محض إنشاء فارغ لا يمت للواقع بصلة، وهو الواقع الذي يعيشه المغاربة يوميا ويصطدمون به في المحاكم ومخافر الضابطة القضائية ومكاتب المتدخلين في قطاع العدالة.
لم يفلح الرميد طيلة السنوات الخمس الماضية في الإطاحة برؤوس مافيا السطو على عقارات الأجانب، والذين تشير إليهم التحقيقات القضائية التي أنجزت وهمت مئات ملفات العقارات التي جرى السطو عليها في الدار البيضاء وطنجة وخريبكة وآزمور ومدن عديدة، وعوض أن يعمل، بحكم كونه رئيسا لجهاز النيابة العامة، على تفعيل المتابعات القضائية في حق متورطين في هذا الملف الذي يسيء لصورة المغرب في الداخل والخارج ويساهم في صد كل مستثمر أجنبي يرغب في اقتناء عقار أو إقامة مشروع بالمغرب، جرت متابعة فاعلين مدنيين حينما أشاروا إلى بعض الأسماء القضائية الواردة في ملفات عقارات أجانب، ويتعلق الأمر أساسا بمحمد متزكي، الرئيس الشرفي لجمعية ضحايا السطو على العقارات، والذي جرى اعتقاله فور استقباله من طرف وزير العدل والحريات والذي وعده بالدفع في اتجاه حل ملف مافيا العقارات قبل نهاية ولايته الحكومية.
هل يجب أن ينتظر المسؤولون دائما أمرا ملكيا يوقظهم من نومهم؟ ولماذا لم يباشر الرميد صلاحياته ويحرك ملفات عقارات أجانب ظلت راكدة وتراكم غبار خزانات المحاكم عليها؟
لقد أظهرت الرسالة الملكية أن خطابات الرميد حول تسريع وتيرة صدور الأحكام القضائية هي مجرد حشو انتخابوي، والدليل أن هنالك ملفات تخص عقارات أجانب معروضة على القضاء منذ أزيد من نصف قرن، مثل قضية ورثة مواطنة فرنسية ذات أصل إسباني سمي حي “كوبا” الشهير بالبيضاء على اسمها والتي ينازع فيها حفيدا هذه المواطنة محاميا معروفا بالمحاكم طيلة 55 سنة وعبر جميع مستويات التقاضي، إلى درجة أن أحكاما قضائية صدرت بأسماء ثلاثة ملوك دون أن يتحرك الملف.
لقد سبق أن كشفنا في هذه الجريدة تفاصيل عشرات الملفات الرائجة في المحاكم والتي ما زال بعضها محتجزا في أقسام الشرطة وعند قضاة التحقيق، وكان تحقيق أمني دقيق انتهى إلى التأكيد على وجود ما لا يقل عن 600 ملف يتعلق بالسطو على عقارات الأجانب، وانتهى تحقيق لقاضي التحقيق باستئنافية البيضاء إلى القول، بعد الاطلاع على تفاصيل 30 ملفا، إن الأمر يتعلق بشبكة إجرامية منظمة تستهدف عقارات الأجانب وتضم أشخاصا يحترفون التزوير ويتبادلون الأدوار بينهم بكثير من الدهاء، ورغم كل ذلك لم يتجاوز عدد القضايا المعروضة على المحاكم حاليا 50 قضية عدد تلك التي بثت أحكام بشأنها لا يتجاوز عدد أصابع اليد، في حين ما زالت أخرى تتقاذفها الأيادي في ردهات المحاكم بسبب تعقد المساطر القضائية وازدواجيتها بين المدني والجنحي ومساطر التنفيذ.
إن ملف السطو على عقارات الأجانب هو أكبر تهديد يمكن أن ينسف جهود تطوير الاقتصاد الوطني كما توضح الرسالة الملكية، فكيف يمكن أن نقنع ذلك المستثمر الإماراتي مثلا الذي اقتنى أراضي بنواحي أزرو لإقامة مشروع سياحي، قبل أن يتبين أن العقار الذي اقتناه موضوع دعاوى تزوير، أن يعود إلى المغرب أو على الأقل أن لا يخبر بقية المستثمرين بما عايشه في المغرب ؟
واليوم عوض أن تجري متابعة حاسمة ومستعجلة للمتورطين في الملف تستصدر المحاكم قرارات قضائية لتعويض ضحايا أجانب من أموال دافعي الضرائب، مثل ذلك الحكم الذي صدر شهر دجنبر الماضي عن إدارية الرباط يلزم الإدارة العامة للمحافظة العقارية بأداء تعويض يفوق 46 مليون درهم لفرنسي بعد الاستيلاء على عقاره بالبيضاء باستعمال وثائق مزورة لم يتحر محافظ آنفا في صحتها، وساهم بدوره في تفويت عقار الأجنبي لشخص آخر يفترض أنه هو من يتحمل مسؤولية التزوير رفقة المحافظ الذي ما زال يمارس مهامه بعد تنقيله إلى محافظة أخرى بالبيضاء، ورغم متابعته قضائيا في عدة ملفات تخص مافيا تزوير عقارات الأجانب.
يعني “شي يكحلها والمغاربة يخلصوها من جيوبهم”.
إذا كانت للرميد فعلا نية في تنزيل التوجيهات الملكية فما عليه سوى الرجوع إلى محاضر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية التي تعقبت شبكة تزوير عقارات الأجانب منذ سنة 2012 وساهم عملها في الإطاحة بمتابعين حاليا في الملف، وحينها سيعثر على معطيات صادمة تكشف أن المتورطين ليسوا فقط تلك الأسماك الصغيرة التي تم اعتقالها بل هناك حيتان كبيرة ما زالت تسبح في القعر وتلتهم ممتلكات الناس بجرة قلم، بعدما تم الاكتفاء بمجرد تنقيلهم أو إبعادهم عن الأنظار بعد ظهور نتائج التحقيق.