«ديوان المحبين».. معهم نلتقي!
ماذا يمكن أن نقول بعد هذه الحلقات من «ديوان المحبين»؟
نقول إنها البداية ولا شيء غير البداية، وإن اقتربنا من هذا المعنى فسنقول: إن هذه الحلقات هي فقط ما قبل البداية، حاولت أن أقدم فيها بعض المحبين من المشرق والمغرب، وليس كل المحبين، فلم أذكر مثلا أبو الحسن الشاذلي، والإمام الغزالي، والبسطامي، والششتري، والسهروردي، وأبو حيان التوحيدي؛ فبحر الحب الإلهي عميق ولا ميناء ترسو عليه سفن الشوق والإشتياق ليتحقق اللقاء. وحتى إن أحصينا كل المحبين للذات الإلهية الذين ذكرتهم كتب التاريخ، فلا يمكن أبداً أن نحصي المحبين حقيقة؛ فأولياء الله منهم من امتحن بالظهور، ومنهم من امتحن بالخفاء عن الخلق، لكنهم معروفون عند بعضهم البعض،لا الخفاء يحجبهم عن ذكر الله، ولا الظهور يغريهم بالحياة. أتاهم منشور الحب فمنهم من باحوا بالسر ومنهم من فضحهم الحب.
وهكذا، تحيا بالمحبين قلوب غابت في النسيان، من رآهم ذكر الله، هم القوم لا يشقى جليسهم. قلوبهم ترى ما لا يراه الناظرون. الحب عندهم عبادة، لا تطرف.. ولا زيادة. يعيشون بأجسامهم بين الناس، لكن قلوبهم إلى الله في نفس أو حركة أو سكون. لا إله إلا الله حصنهم، وحكمتهم وبراقهم إلى حبيبهم.
قلوب العارفين صافية، عارفة بالله، ما تحمله من فلسفة في رؤى الوجود ومشاهدات روحية للموجود تعجز قلوب الغافلين عن تصديقها، لا بدعة إنما عبودية، وذلك فضل الله يؤته لمن يشاء.
قال البشر بن الحارث الحافي المتوفى ببغداد سنة 227 هجرية: «الصوفي هو من صفا لله قلبه». وسؤالي: هل هناك دلالة أخرى للعبودية أعمق من «صفا القلب لله»؟ لكن، كيف نجعل القلب صافياً لله في زمن غلبت المادة الإنسان! واختلط فيه الصفاء بالكدورات، وأمواج الحب بغبار الكراهية، والملح بالماء! وأصبح للتصوف دخلاء ومرتزقة، إلا قليلا من العلماء العاملين، الذين احتجبوا عن ذكر الإنسان بالله، بعيداً عن الكراسي والمآسي السياسية، عاهدوا الله على إصلاح الخلائق لا إطلاق الحقائق، فطوبى لهم!
طبعاً هناك المزيد.. والمزيد من تعريفات فلاسفة التصوف لهذا الفن الجليل. وإن كان دربهم مليئا بالأسرار!
فلما سئل الجنيد عن التصوف قال: «هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به».. أو بعبارة أخرى: إفناء الله الإنسان بإرادته، ودفعه إلى العمل بإرادته الخاصة واختياره الأحدي. حتى تتحير العقول، فلا تدرك من سيرها إلا أنها سائرة، وإلا فالتصوف أو التزكية أو الزهد أو ما أحببت من الأسماء هو: فن الوصول إلى الله، وربما أسفر هذا الوصول، كما قال الأستاذ أحمد بهجت، رحمه الله، عن جذبة تعتري العقل، فإذا بالعقل ذاهب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أو لعله يسفر عن عشق يدعو إلى الجنون، فإذا المحب يصرخ «ما في الجبة غير الله».. فإذا بالسيوف والنعال ترتفع عاليا وتهطل على رأسه ..
اختلفت طرق الصوفية في تذوق روح الدين، لكنهم اتفقوا جميعا على زاوية رؤيا واحدة: «الحب».
إنهم أهل الحب، يرون أنهم يحبون الله كما لا يحبه أحد.. وهذه إشارة مهمة في زمننا المعاصر الذي كثرت فيه كل صنوف الكراهية والعنف.
والمحبة الحقيقة كما عرفها لنا الأستاذ فتح الله كولن في «التلال الزمردية»، تتحقق بتوجه الإنسان بكيانه كله إلى المحبوب سبحانه، والبقاء معه، وإدراكه له وانسلاخه من جميع الرغبات الأخرى ومن جميع الطلبات، حيث إن قلب البطل الذي ظفر بهذه الحظوة ينبض كل آن بملاحظة جديدة تخص الحبيب.. وخياله يجول في إقليمه الساحر.. ومشاعره تتلقى كل لحظة رسائل متنوعة منه.. وإرادته تحلّق بهذه الرسائل.. وفؤاده يسرح في متنزهات الوصال.
فإذا ما سار سار بأمر الحق سبحانه، وإذا ما وقف وقف بأمره، وإذا تكلم تكلم بنفحات منه، وإذا ما سكت سكت لأجله، فهو أحيانًا في أفق «بالله» وأحيانًا في أفق «من الله» وأحيانًا في أفق «مع الله».. قال الله عز وجل مخاطبا عموم المؤمنين في سورة «آل عمران»: «إن الله يحب المتقين» الآية 76، وقال عز وجل في نفس السورة: «والله يحب المحسنين» الآية 147، وقال عز وجل في سورة «البقرة»: «والـذين آمنوا أشد حبا لله» الآية 165.
وقال عز وجل في نفس السورة: «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» الآية 222.
الحب عند الصوفية.. بحر عميق، بل هو بحار عميقة. ومع أهل الحب حيث هم نلتقي إن شاء الله..