ديكتاتورية الفكر الخفية
علي محمد فخرو
من الضروري أن يتعرف شباب وشابات هذه الأمة إلى ما يقوله محللو ومفكرو هذا العالم، عن التغيرات في صفات وطرق التفكير والسلوك السائد في عصرنا الحالي. فطرق تفكير إنسان هذا العصر، وبالتالي سلوكه وتفاعلاته مع الحياة والناس، لها تأثيرها الكبير في ما يجري في عالمنا المعاصر.
وبالطبع فطرق التفكير الجديدة والسلوكيات الممارسة المستحدثة، وراءها من يستنبطها ويدعو لها وينشرها ويدافع عنها، ويستفيد من ورائها، وعلى الأخص في حقول السياسة والدين والإعلام والتواصل الاجتماعي.
وتبذل جهود إعلامية وإعلانية هائلة، وتجيش كل أسلحة ووسائل علم النفس، لتطويع أفكار وسلوكيات الشباب على الأخص، بهدف هيمنة منطلقات ثقافة عولمية واحدة، رأسمالية نيوليبرالية في الأساس، وبهدف تهميش كل الثقافات الأخرى.
في قلب تلك المحاولة، التركيز المبالغ فيه على الفردانية، بما يصاحبها من بناء شخصية نرجسية، وإثارة وتمجيد لكل غريزة بشرية بدائية، والاكتفاء بعيش اللحظة الآنية، من دون الالتفات إلى الماضي، والتطلع نحو المستقبل، والهوس بالحقوق من دون ضبطها بالواجبات، والإصرار على تحقيق الرغبات، من دون ضبطها بالإمكانيات. وبالطبع فإن كل ذلك يقود إلى نتائج مقلقة، فالمبالغة في الفردية تؤدي إلى إهمال وضعف ممارسة الديمقراطية الجمعية، وهو ما يفسر جزئيا إحجام الشباب عن القيام بواجب التصويت خلال الانتخابات المحلية والوطنية. والالتزام نحو الآخرين والمجتمع يحل محله حق ممارسة الاختيار الفردي في كل شيء وتفضيله على كل شي. والمبالغة في استقلال الذات تؤدي شيئا فشيئا إلى نوع من خوصصة المجتمع في تركيبته وعلاقاته. وعند ذاك ينجح الطعم الذهني القائل، بأنه كلما عملت لساعات أطول وبجهد مضن أكبر، استطعت شراء أشياء أكثر وحققت رغبات مظهرية أكثر. وهذا ما يقود إلى نوع من العبودية، التي يقبلها إنسان العصر، من دون أن يفكر في نتائجها الكارثية عليه وعلى علاقاته الاجتماعية. وشيئا فشيئا تصبح الكمية أهم من الكيفية، والشعبوية أهم من الانتقائية، وقبول إملاءات استطلاع الرأي من دون ممارسة للعقلانية، ومن دون تحكيم للقيم والأخلاق. ولذلك ليس بمستغرب أن تقاس قيمة الكتب بأعداد مبيعاتها، وبمدى تربعها في احتفالات توزيع الجوائز، بدلا من محتوياتها الفكرية والإبداعية ومدى إغنائها للمسيرة الإنسانية.
لخلق تلك الشخصية، ولقيادتها نحو فوضى وعزلة فكرية ونفسية وروحية، لابد من وجود أنواع من الديكتاتوريات المخفية المقنعة، فالأخصائي في حقل محدود صغير يُستمع إليه، وصاحب النظرة الفكرية الشاملة مستبعد، وأعداد المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي هي المقياس الذي يتغنى به معلقو الإذاعات والتلفزيونات وكتاب الصحف. وتلفزيون الواقع يكبر وينتشر، بينما تلفزيون الفكر والثقافة الرفيعة، يتضاءل ويعيش على الهوامش. ومن قبل كان العالم يؤمن بمقولة: «أنا أفكر إذن فأنا موجود»، أما الآن فقد أصبحت مقولة: «أنا أشاهد في التلفزيون أو يُستمع إلي في الراديو إذن فأنا موجود». تلك الديكتاتوريات الخفية وغيرها كثير، حلت محل ديكتاتوريات البروليتاريا، وشيئا فشيئا تحل محل إملاءات الضمير، وتوجيهات الحكم الصالح.
يراد لشباب هذا العالم وشاباته أن يعيشوا هما واحدا، الإيمان بما تقوله تلك الديكتاتوريات الخفية، والعمل بما تمجده وتصقله وتمزجه بشتى السموم، من أجل إماتة الفكر والحس والروح والضمير في إنسان هذا العصر. إذا كان شباب هذه الأمة يريد أن يحرر وينهض أمته، فإنه يحتاج إلى أن يقاوم آفات العصر تلك ويعيش حريته العلوية السامية.