ديكتاتورية الجماهير
جهاد بريكي
للجماهير الحق في تحديد ما الصالح والطالح، ومن هو على حق ومن يجب إخراس صوته. فهي صاحبة الرأي الفصل وهي من تقرر إن كان المتكلم جديرا بفتح فمه أم لا. الجماهير إذا ما تكتلت وانصهرت وشعرت بدفء الوفرة والعدد أعطت لنفسها حقوقا كثيرة وأباحت لها ما لا يجرؤ فرد منها وحده على فعله. وتحولت إلى مطرقة تهوي بثقلها على كل من لم ينصهر داخل المجموعة. معي أو ضدي، في صفي أو عميل، تساندني أو خائن، منطق بوش عندما قرر غزو العراق، إما أن تكون مع أمريكا وإما أنك عدو لها. هو المنطق الذي تصطدم به كلما حاولت التفرد برأيك بغض النظر عن إن كان هذا الرأي يوافق هوى مجتمعك أم لا. تتجمع الأصوات وتكثر الشعارات فيهيج الدم داخل العروق وتنتفخ الأوداج وتصبح كل كريهة مستباحة، والشخص داخل الجماهير هو غيره خارجها، تأثيرها عليه كتأثير أم متسلطة على طفل خائف، تخرج منه أغمض ما فيه. الجمهور قوة ضاغطة وعصية على التفاوض تنهك من يواجهها لأنها تنطلق من منطلق نفسي متغلغل بين صفوفها، نحن الأكثرية، وللأكثرية القول الفصل والحق الجامع المانع لا ينافسها فيه أحد. مع أن تاريخ البشرية وقصص الغابرين من أبناء آدم أغلبها إن لم تكن كلها، تمثلت في نضال شخص على حق، ضد جماعة على باطل. الأنبياء والمصلحون ومن خلفهم من علماء ومفكرين وفلاسفة أولئك الذين بنوا مدارس ووضعوا مناهج روحية وعلمية وأدبية ومادية غيرت وجه العالم، كانوا دائما ما يتواجدون بين رهط قليل من الناس ومنهم من كان وحده تماما في مواجهة السواد الأعظم.
فهل يكفي أن تحوز فكرة أو قضية أو رأي على رضى الجماهير لتصبح بعدها وحيا منزلا وتلبس عباءة القدسية ورداء الأحقية جاعلة ما عداها منكرا يجب قمعه ودحره !؟
أشك في ذلك، إلا أن الأكيد والحتمي هو محاولات المجموعات منذ عصور خلت، في مصادرة حق الفرد أو الرهط المختلف في الفكرة والتوجه والتعبير. قُتل الأنبياء وهُجر المصلحون وحوكم المتنورون من طرف الجماعات الكبيرة، لأسباب عديدة على رأسها «وما آمن معه إلا قليل»، فقلة التفاف الرؤوس حول فكرة أو رأي ما يجعل الجماهير على يقين تام بأنها باطل يجب تدميره.
واجه سقراط حكومة أثينا وفلاسفتها وشعراءها وتمت محاكمته كما جاء في رواية تلميذه أفلاطون أمام خمسمائة مواطن حائز على الجنسية الأثينية، الشيء الذي كان ممنوعا على النساء والعبيد، فكان رأي الجمهور العريض (380 صوتا) أن يتم إعدامه متجرعا سم الشوكران. لقي مصرعه على يد الجماهير التي لم ترقها طريقته الساخرة في الحجاج وتمسكه بآرائه الشاردة آنذاك عن ركب الجموع.
نعيش في عالم رقمي أصبح يفرض على كل من قرر دخوله التفكير مائة مرة قبل تقديم فكرته والدفاع عن رأيه الشخصي. فأن لا يستسيغ منطقك جمهور ما هو حكم نهائي بإبعادك وإقصائك، يكفي أن يخرج كاتب أو مفكر أو متصفح عادي حتى، اعتاد التفكير خارج العربة الشعبية المتدحرجة من على سفح وعر، برأيه العلمي أو الأدبي أو الاجتماعي أو السياسي أو الديني للعلن بعد طول تفكير ودراسة وتحليل وتنقيح، حتى تتوالى على حساباته حملات “السينيال” الهوجاء ويشمع حسابه إلى أجل غير مسمى، لمجرد أن ما كتبه أو ما نشره لا يوافق جمهورا ديكتاتوريًا يؤمن بحقه في أن يَقمع ولا يُقمع وأن يصادر حقوق الأفراد المخالفين له فيما هو يلهث صارخا بشعاراته وبكائياته لأجل حرية التعبير والإرادة.