شوف تشوف

الرأيالرئيسية

دول الطوائف الجديدة

بقلم: خالص جلبي

في عام 478 هـ الموافق لـ1085م سقطت عاصمة الأندلس التقليدية طليطلة «توليدو»، التي تبعد عن مدريد الحالية بـ70 كيلومترا إلى الجنوب، عقب حصار دام سبع سنوات، وبعد قصة عجيبة. فالفونسو السادس هرب إلى ملك طليطلة، بعد أن فاز بالعرش أخوه، وأثناء مكثه عنده درس إمكانية فتح البلدة، وأهمية موقعها الاستراتيجي وكيف يمكن أخذها. وعاد الرجل فربح مرتين، استرد العرش واحتل توليدو،
وتَلَقَّبَ بالفونسو السادس. وأنا شخصيا بعد أن عشت فترة طويلة مع كتاب «تاريخ الأندلس» لمحمد عبد الله عنان، زرت المدينة ورأيت نهر التاج الذي يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم والتاج للرأس. وتجلس طليطلة متربعة فوق قمة على منحدر النهر، ومحاطة بثلاثة أسوار فعرفت منعة المدينة. وبعد أن بدأت الحرب الصليبية في المغرب، شن الفرنجة حملتهم الأساسية على المشرق عام 1099م، وكان ذلك بعد هزيمة معركة ملاذكرد التي هزم فيها رومانوس الرابع ديوجينس عام 1071م، التي وقع فيها الإمبراطور في الأسر. ومع هذه الهزيمة استنجدت القسطنطينية بالغرب، فلبى النداء وبدأ مسلسل الحروب الصليبية. وعندما سقطت طليطلة، ارتجت مفاصل دول الطوائف المتناثرة في الأندلس. كان بنو الأفطس في البرتغال، وذو النون في طليطلة، وبنو جهور في قرطبة، وبنو هود في سرقسطة، وبنو عباد في إشبيلية. كما لعنهم ابن حزم الأندلسي الذي عاصر تردي الأوضاع السياسية، فقال إنه أمر لا يصدق أن تنتقل من دولة إلى دولة ينادى فيها بأمير المؤمنين، إذا ركبت حمارك لمسيرة ليلة.
اجتمع ملوك الطوائف الخائفون في اجتماع قمة عربي، وتدارسوا خطورة الأمر، ثم كلفوا المعتمد بن عباد، ملك إشبيلية، بعبور البحر إلى إفريقيا، للاستنجاد بملك المرابطين. وفي ذلك الاجتماع الشهير تبادلوا الرأي بصراحة، فقال أحدهم: تعلمون أن ابن تاشفين هذا إن جاء أرضكم، كنتم كمن أدخل الأسد إلى بيته وأصبحتم عبيدا عنده، فماذا ترون؟ اختلف القوم كثيرا بين أن يكونوا في العبودية تحت مملكة الفونسو السادس الإسباني، أم ملك المرابطين يوسف بن تاشفين. وحسم الموقف المعتمد بن عباد، فقال: أعلم أننا سوف نصبح عبيدا عنده، وأن دولنا سوف تنتقض، ولكني أَحَبُّ إلي أن أرعى جِمَالَ ابن تاشفين على أن أرعى الخنازير عند ملك قشتالة. ويروي التاريخ أن ابن عباد انطلق إلى الشمال الإفريقي، وطلب النجدة من المرابطين، فسال لعابهم لتوسيع مملكتهم. وفعلا تحركت حملة عسكرية كبيرة عبرت البر الإفريقي على نفس طريق طارق بن زياد السابق، فتوافدت الأخبار على الفونسو بقدوم ابن تاشفين، فهرع إليه ونصحه البعض أن لا يفعل، ولكنه تهور ونزل حتى حافة البرتغال الحالية إلى موقع يسميه العرب الزلاقة، ويسميه الإسبان سهل ساكراخاس على حدود البرتغال الحالية. وفي تلك المعركة التي نشبت في 12 رجب عام 479 هـ الموافق لـ23 أكتوبر عام 1086م انتصرت جيوش المرابطين، وتأخر سقوط الأندلس أربعة قرون. ولكن الشيء المهم في هذا التحول، أن المعتمد بن عباد تحول فعلا إلى عبد أسير عند ابن تاشفين. فقد مسح ملك المرابطين دول الطوائف، ووضع يديه على اليتيمة الأندلس، وساق ملك إشبيلية إلى الأسر، وهناك كتب أعذب شعره في المعتقل. واشتغلت بناته بغزل الصوف من أجل العيش، وانقلبت حياة النعيم الملكية إلى شظف العيش وخشونة اليدين، وتبدل المنظر والهندام، فبعد أن كن بنات الملوك أصبحن عاملات يكدحن للبقاء. وكانت زوجته الجميلة اعتماد الرميكية، التي تسمت على اسمه، قد ماتت بسرعة في الأسر مرضا وغما، ولحق بها إلى القبر المعتمد بعد حين، فقبرهما الآن في قرية أغمات على مسافة 5 كيلومترات من مراكش. لقد زرت المقبرة وبكيت، وأعظم ما أثر في، القبران المتلازمان وبينهما ابنهما الربيع.
وما أريد من هذه القصة التي أرويها عبرة التاريخ. فلم يتغير الحال إلا باتجاه واحد، فالحكومات العربية أصبحت دول طوائف جديدة، بفارق أنه لا توجد دولة إسلامية قوية مثل دولة المرابطين، عندها قدرة تحدي الجيوش الأوروبية فتنجد، بل الكل جل ما يمكن فعله أن يتأمل منظر الديناصور الأمريكي، وهو يدخل سفاري العرب. بعد أن تحولت بلدان العربان إلى غابة تضم غيلان السياسة، واليوم يأتي من هو أقوى فيقع الصراع بين الوحش الكبير والصغار، والأمة تتأمل هذا المشهد على شاشات التلفزيون. ومن دروس التاريخ أن الإمبراطوريات تتمدد وتتوسع، ولكن توسعها يقتلها في النهاية، وهو قانون لا تنجو منه إمبراطورية.
ولعل ما يحدث يدعو إلى التفاؤل وليس التشاؤم، أن تلتفت الحكومات إلى شعوبها، فتعرف أن مصدر قوتها من شعوبها، وتعرف أنه لا بد من دخول العصر بأسلحة العصر. وإذا كان عصر معركة الزلاقة أن طاغية يقابل طاغية، والرئيس الأمريكي ليس مثل صدام، بل خلفه مؤسسات ومصارف مالية ومراكز بحث علمي وقيادة مسلحة بكل تقنيات العصر، سواء كان الصاروخ أو الكونغرس. ومعركة تدور بين طاغية من عصر الفونسو لمواجهة نظام ديموقراطي، تحسم النتيجة لصالح الثاني. ويبدو أن الأمم التي لا تغير نفسها تأتي قوى التاريخ فتغيرها ولا ترحم. وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم. ومن يغفل عن سنة الله فإن سنة الله لا تغفل ولا تنام.

نافذة:
من دروس التاريخ أن الإمبراطوريات تتمدد وتتوسع ولكن توسعها يقتلها في النهاية وهو قانون لا تنجو منه إمبراطورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى