شوف تشوف

الرأي

دولة القانون وقانون الدولة

يعلمنا المشرعون الأوائل، أن ترك العمل بالقانون الموجود لا يختلف في شيء عن غياب القانون، وبالتالي لا فرق بين من ينتهك القانون من الشعب وبين من لا يطبق القانون من الدولة، فكلاهما يحتقر روح العدالة، فإذا كان المجلس الأعلى للحسابات ومفتشيتي وزارة المالية والتعليم قد أثبتتا بالقرائن والأدلة الدامغة تورط مجموعة من المسؤولين السابقين والحاليين في الفساد، بما في ذلك النهب والتبذير والتربح من المال العام، فإنه من غير المعقول أن يتم تجميد هذه التقارير وإخضاعها لمساومات السياسة والعائلة والانتماء المجالي، فإذا كان هؤلاء المفسدين قد احتقروا القانون بفسادهم، فإن الذين يتلكؤون اليوم في محاكمتهم يمارسون الجُرم نفسه وهو احتقار العدالة، وهذه مشكلة حقيقية اليوم في المغرب.
فالمغاربة اليوم متفقون على حقيقتين، حقيقة أن الإصلاحات الدستورية التي تم تبنيها قبل أربع سنوات ترسخ مبدئيا دولة الحق، وحقيقة أخرى هي الحاجة إلى تطبيق القانون على الجميع، ليتم التفعيل الحقيقي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. إذ لا معنى أن تغض الدولة الطرف عن الفاسدين الذين يعج بهم مشهدنا التربوي والسياسي والاقتصادي، وتطلب من الشعب أن يكون متفائلا وأن يصون وحدة الصف الوطني، إذ إن سيادة القانون على القوي والضعيف وعلى الغني والفقير وعلى الحاكم والمحكوم هي معيار قوة الدولة ومناعتها، ومعيار الوحدة الوطنية، فالشعوب التي تدافع عن قوانين بلادها هي التي تستطيع الدفاع عن أوطانها.
فحين تضمر سيادة القانون، أو تضمحل، وتصبح الحدود بين المشروع وغير المشروع منعدمة، عندها تكف الدولة عن كونها دولة حديثة، ولا معنى لجميع ما تصف به نفسها من صفات، فحين يصير جميع المواطنين مشتبها فيهم ومدانين، ولا أمل في أن تثبت براءتهم، أو براءة أي منهم، وجميع ذوي الامتيازات أبرياء أنقياء، بل هم البراءة والنقاء، ولا أمل في أن يتهم أي منهم أو يحاسب بموجب الدستور والقانون، مهما أوغل في الفساد والإفساد، حينها لن نستغرب إذا تزعزعت ثقة المغاربة في دولتهم.
ما أغفله الفكر السياسي عندنا، بقدر ما عندنا من فكر سياسي، هو علاقة التشارط بين الاحتكار والفساد والتعددية الحزبية حتى لا نقول تعددية سياسية وغياب العدالة في تطبيق القانون، أو التطبيق الكيفي والانتقائي للقانون، إذ إن الذين سيطالبون بتطبيق القانون وسيحاسبون الحكومة ومؤسسات الدولة على تلكؤها في تطبيقه، ونقصد الأحزاب والمجتمع المدني هم أنفسهم الذين يستفيدون من مناخ احتقار العدالة الذي يسود في المغرب.
إن إحدى أهم تجليات الأزمة التي تعيشها البلاد، وأبرزها على الإطلاق، هي أن هذا الوضع الذي لا يتم فيه استئصال بؤر الفساد، هو ربط للأواصر التي ما فتئت تصل الماضي المظلم للمغرب بحاضره الواعد، ففي الماضي أخرج هذا الوضع الشعب المغربي عن بكرة أبيه من عالم السياسة وألقى به في مهاوي العزوف واللامبالاة والإضراب المقنّع عن المشاركة في الشؤون العامة، واليوم يخرج الوضع نفسه هذا الشعب للاحتجاجات من أجل الاحتجاجات، الاحتجاج بتخريب الممتلكات العامة والخاصة، إطلاق التصريحات المحرضة على عواهنها..
لنا حلم أن تتمكن جميع فئات الشعب وفعالياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية، من المشاركة الفعلية في الحياة العامة بانتخاب ممثليها بحرية واقتناع وبعيدا عن الأشكال المستحدثة في الفساد الانتخابي، على أساس حزبي حقيقي وليس على أساس الكوطات المحددة في مطابخ الداخلية، في ظل قانون انتخاب ديمقراطي، عصري وحديث، وقانون أحزاب، وقانون ديمقراطي للإعلام يضمن حرية التعبير والنشر والتداول، وفي ظل فصل السلطات واستقلال كل منها عن الأخريات استقلالاً تاما هو قوام وحدتها واتساق أدائها، وفي ظل استقلال النقابات ومنظمات المجتمع المدني عن السلطة التنفيذية من جهة، وعن الأحزاب السياسية من جهة أخرى، أي في ظل حياة مدنية قوامها المواطنة، ففي ظل «قانون الدولة» يصير الشعب شعب الدولة، لكن وفي ظل دولة القانون تصير الدولة دولة الشعب، فلا يزال في وسع الأحلام أن تحافظ على ورديتها، وما زال في القلب والذاكرة أيضا أشياء تستحق الانتباه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى