يكاد موضوع الكتاب المغاربة والنشر في المشرق العربي يشكّل جرحاً قديما ظلت تلخصه المقولة الكلاسيكية: المغرب يكتب والمشرق ينشر. ألم يتجدّد أي شيء منذ زمن تلك المقولة غير العادلة؟ ألم تجر مياه جديدة تحت النهر؟ من خلال أجوبة المشاركين في هذا الملف ندرك أن النشر المغربي لم يصبح مهنة مغربية قائمة بعد. الكاتب المغربي يقدم مخطوطته، فيتركها الناشر المغربي جانبا حتى يحين توقيت تقديمها لدعم مالي تقدمه وزارة الثقافة. وقد يقبل المخطوط أو لا يقبل، فيبقى الكاتب ينظر بأسف إلى الزمن الذي ضيعه في انتظار نتائج لجان الدعم الوزارية. أما إذا قدم الكاتب المخطوطة نفسها لناشر مشرقي، فهناك برنامج يتم الاتفاق عليه: ثلاثة أشهر للرد على المؤلف، ثم توقيع عقد النشر وبعدها انتظار خروج الكتاب من المطبعة. لكن التفاصيل الشيطانية توجد تحديداً في هذا البرنامج المتّبع، والذي تتوسط عقده وثيقة اتفاق بين الناشر والمؤلف، وهي وثيقة تُثار حولها عدّة أسئلة: هل العقد المبرم بين الطرف الأول، والممثل في الناشر، والطرف الثاني والممثل في المؤلف، يحترم مهنة الكتابة، حقوق المؤلف؟ هل هي شفافة بما يكفي؟ هل يجد المؤلف ذاته من خلال احترام حقوقه المعنوية والمادية؟ أم هي مجرد وثيقة لا شكلية جوفاء؟ هذا ما حاولنا الإجابة عنه من خلال هذا الملف. مع ضرورة الإشارة إلى أننا وجهنا استكتابنا لعدد من الكتاب المغاربة، فأجاب بعضهم ولاذ البعض الآخر بالصمت، وهو صمتٌ يفسّر نفسه، فالذين لاذوا به من المنتفعين بالنشر في المشرق العربي، ولا يريدون «إثارة النحل» عليهم، ويبقوا مثل اليتامى، لا هم من كتاب المغرب ولا المشرق، في حين أن الأمر ليس بهذه المعادلة، فالملف يروم أولا وأخيراً إثارة الاهتمام إلى قضية ملغزة يتداخل فيها المهني بالتجاري بالحقوقي.
محمود عبد الغني:
حوار مع جهاد أبو حشيش مدير نشر دار «فضاءات» الأردنية:
نحرص على علاقة احترام متبادل بيننا وبين الكاتب وعلى الوضوح والشفافية في عقودنا
حاوره: محمود عبد الغني
في إطار ملف «مؤلفون مغاربة ينشرون في دور نشر مشرقية لماذا؟»، أجرينا هذا الحوار مع الروائي والناشر الأردني جهاد أبو حشيش، مدير دار «فضاءات» للنشر. هذه الدار التي بدأت تقبل على نشر مؤلفات لكتاب مغاربة في حقول الرواية والنقد والشعر.
أستاذ جهاد مرحبا بك في الملحق الثقافي لجريدة «الأخبار». أنت المسؤول عن دار النشر «فضاءات» بالأردن، لو تقدم للقارئ المغربي نبذة عنها، كيف تختارون الأعمال المقدمة إليكم؟
نعتز في «فضاءات» بكوننا اشتغلنا على خلق تجربة مغايرة وجادة، ومسؤولة في التعامل مع الكتاب والكاتب والقارئ، اشتغلنا بجدية عالية في السنوات السابقة لخلق ثقة القارئ بالكتاب الذي تنشره «فضاءات»، سواء في مجال الرواية أو الشعر أو القصة، أو في مجال الدراسات النقدية والفكرية.
أما في ما يخص اختيار «فضاءات» للكتب التي تنشرها، فلو تابعت أي كاتب نشرت له «فضاءات»، ستجد أن هناك تقريرًا أوليًّا تضعه لجنة متخصصة بهذا الأمر، يتم على أساسه قبول أو رفض النشر، أو طرح ما تراه الدار واجبًا من إعادة اشتغال على النص، ليكون جاهزا، وكثيرا من النصوص نشترط أنْ نقوم بإعادة تحريرها. لدى الدار قسم تحرير خاص ومتكامل، معني بهذا الأمر.
نبذل جهدنا في اختيار الأفضل، ووجود لجنة قراءة متخصصة أمر ضروري، رغم أن هذا قد لا يضمن لك دائما الحصول على الأفضل، لكنه يضمن الإفلات من السفه والركاكة ويضمن حدا معقولا من الجودة، فما بين ناقد كلاسيكي وناقد حداثي ستجد اختلافًا كبيرًا في التقييم، فبعض النقاد يميلون إلى تقييم المضامين استنادًا على رؤيتهم لوظيفية النص الروائي، والبعض يتعامل مع الرواية كتقنية سردية يفتش فيها عن مساحات التجريب أو التجديد في أسلوبية السرد، والبعض قد يلجأ إلى تفضيل المشهدية في العمل الروائي والتي ربما لا تَخلقُ تنامياً درامياً للحدث بشكل أو بآخر. إذاً فلجان القراءة تضمن لنا حدا معقولا ومنطقيا ونصوصًا بعيدة عن الركاكة.
ثم إنّنا، وبعد الاتفاق، نُخضع النص لمراجعة صارمة، سواء من حيث التدقيق اللغوي، أو الإشارة إلى الثرثرة التي قد يكتنز بها نصٌّ جيدٌ فتضعفه، ونقترح ما نراه مناسبا، ونتحاور مع الكاتب، وأحيانًا نشترط ضرورة قيام قسم التحرير بالاطّلاع على النص والتعامل معه بالتعاون مع الكاتب.
كثير من الأسماء التي نشرنا لها ولم تكن معروفة، صار القارئ ينتظر جديدها، بل ويسأل عنه ويفتش عن كاتبه.
والتسويق لا يعني بالضرورة اهتمامنا بحضور المعارض العربية والدولية فقط، ولكنه يعني نشاطات الدار ومساهمتها في تفعيل المشهد الثقافي العربي، وقد نشطت الدار على هذا الصعيد بشكل لافت، وستعمل دائما على أن تقدم كلَّ ما هو متميز في هذا المجال.
لم نشخصن، ولم ننتمِ لأحد قدر انتمائِنا للنص المبدع، ولهذا نتعامل مع الكتاب دون زيف، لا نعظم، ولا نقلل بل نتعامل بحقيقة وننقد بما يؤدي إلى بناء أفضل، ونعتبر أنفسنا مسؤولين عن تربية ذائقة حقيقية، ولهذا ما نقوله للكاتب عن كتابه هو ما نقوله للقارئ، نعاين الضعف ونعاين مكامن القوة، ونسعى لننتج ما هو أكثر إبداعاً.
أما عن علاقة الاسم المكرس بتقييم النص، فالنص هو القيمة الأولى والأخيرة في ما يخص التقييم لدينا، وبخاصة أن الأسماء لا ترافق النص للتقييم. الكثير من الأسماء المعروفة صنعتها ظروف لا علاقة لها بالإبداع، وبالتالي على الناشر أن يحرص على ما يصنع من تاريخ وألا يغتر بأسماء أغلبها معروف في أوساط محدّدة.
أصبح المغاربة ينشرون في داركم، منذ متى ارتفعت وتيرة هذا النشر؟
كانت أول مشاركة لنا في معرض الدار البيضاء عام 2009، وقد التقينا آنذاك بعديد الكتاب المغاربة، وكنا قد نشرنا قبلها للشاعر حسن نجمي، والقاص أنيس الرافعي، وإسماعيل الغزالي وكتاب آخرين.
بعد عام 2009 نشرنا للكثير من الكتاب المغاربة، ومن الملاحظ أن ما ننشره للكتاب المغاربة يزداد عامًا بعد عام.
وممن نشرت لهم الدار من الكتاب المغاربة، على سبيل المثال لا الحصر، الروائية الزهرة رميج، والشاعر صلاح بو سريف، والأستاذة زهور كرام، والناقد عبد النور إدريس، والقاصة البتول محجوب والعالية ماء العينين، والناقد أحمد الجرطي، والروائي محمد الخراز، والدكتور محمد أقضاض، والناقد محمد معتصم والشاعرة لطيفة مسكيني والشاعرة رجاء الطالبي والكثير الكثير من الكُتّاب المغاربة.
كيف تعاملون الكاتب المغربي من الناحية الجمالية والمعرفية والقانونية؟
نتعامل مع نص ولا نتعامل مع جنسيات، فالكاتب الجيد والمبدع، كما المتطفل على الكتابة، يوجد في كلّ مكان، و«فضاءات» تولي اهتماما خاصا بكل كاتب وكتاب، والنص المبدع والحقيقي هو ما يجعل الناشر والقارئ يقفان بإجلال أمامه.
ولا أحد ينكر ما بات يحتله الكاتب المغربي روائيًا وناقدًا وشاعرًا من مكانة في المشهد الثقافي العربي، وبالتالي فنحن في «فضاءات» ننتبه إلى خصوصية النص النقدي أو السردي أو الشعري المغاربي الذي أكد تميزه من خلال استفادته من اطلاعه المباشر على الثقافة الفرانكفونية.
وسياستنا في التعامل مع الكتاب واضحة، فثمة عقود ملزمة لأطراف الاتفاق، وبالتأكيد ليس لدينا صيغة واحدة أو وحيدة في التعامل مع كلّ كتاب، فالنص ورؤية اللجنة المختصة في الدار لرواجه وافتقاد المكتبة العربية له، هي ما يحدّد بنود العقد واشتراطاته. فالعقود أنواع لدى كل دور النشر في العالم حتى الأوروبية منها وتتلخص في التالي: عقد على نفقة الكاتب، وعقد تتشارك الدار والكاتب في تمويل النشر، وعقد على حساب الدار. ورؤية الدار لمستوى النص ورواجه وأهميته هي ما يحدد ذلك.
ارتفعت في الآونة الأخيرة أصوات الشكوى من الناشرين: لا يتعاملون وفق عقود؛ لا يلتزمون ببنود العقود…الخ.
لا يخفى على أحد أن قطاع النشر في السنوات العشر الأخيرة يعاني كثيرًا، حتى إنّ أكثر من 40 بالمائة من دور النشر العربية أغلقت، وكثير منها على طريق الإغلاق. وفي الوقت ذاته فكثير من الكُتّاب يحمل وهمًا في أنّ القارئ العربي ترك كل شيء وينتظر كتابه ليتلقفه، رغم أننا جميعا نعي أن ما يقدمه بعض الكتاب من إهداءات أكثر من النسخ التي يبيعها. وكلنا نعي أن أزمة القراءة في الوطن العربي تصل إلى حدّ يجعل صناعة النشر في خطر، وخاصة أنّ نسبة القراءة في الأصل لا تتجاوز 7 بالمائة. ومن هنا تجد أنّ العلاقة بين الناشر المأزوم بعدم تحقق الرواج المفترض للكتاب وبين الكاتب الذي يفترض أن القارئ ينتظر بشغف ليتلقف كتابه تتأزم، وبدل من أن تتضافر جهودهما تجدهما يترجمان أزمتهما من خلال تراشق الاتهامات. ناهيك عن قفز بعض الكتاب من ناشر إلى آخر، دون التدقيق في مسموعات الناشر ومدى التزامه وحرصه واحترامه لما ينشر. الناشر سيحمل راية كتابك، لذلك من المفترض أن يكون هذا الحامل مقتنعا بما تكتب كشرط أول، وأن تكون الثقة أساس التوافق وإلا فأنت تخون نصك، قبل أنْ يخونه غيرك.
هل سبق أن وقعت لكم مشكلة مع كاتب من المشرق أو المغرب؟
من الطبيعي، خلال سنوات العمل، أن تقع مشكلة هنا أو هناك، لكننا نحرص دائما على علاقة احترام متبادل بيننا وبين الكاتب، وعلى وضوح وشفافية عاليين في عقودنا.
انتقل معرض الكتاب من الدار البيضاء إلى الرباط، ما رأيكم؟
كنت قد تحدثت في هذا الأمر إبان انتهاء المعرض في السنة الماضية، وقلت إنّ معرض النشر والكتاب المنعقد في الرباط 2022 حقق نجاحا باهرًا ومتميزا، من حيث نوعية الجمهور.
فقد فؤجئنا بمستوى الزوار وبمستوى اهتمامهم وجديتهم في التعاطي مع الكتاب واقتنائه، وبخاصة أن دور النشر حملت للقارئ المغربي الكثير من الكتب الجديدة للكُتّاب العرب والمغاربة، والتي حالت الجائحة دون وصولها في فترة الجائحة. ونأمل أن تشهد طبعات المعرض القادمة في الرباط اهتماما موازيًا لما شهدته طبعة 2022 من الاهتمام.
لقد شهدت طبعة المعرض عام 2022 المنعقدة في الرباط نوعية قارئ مختلف ومهتم، حيث كانت القصدية في اقتناء الكتاب واضحة، والاهتمام بكل جديد جليًّا، وقد أضاف هذا الزائر النوعي الكثير من الروح والحركة والتفاعل سواء بالنسبة للكاتب أو الناشر. ومما لن يختلف عليه اثنان هو إحساس الناشرين في هذه الطبعة بالأمان الكامل سواء أثناء فترة المعرض أو ما بعدها، فقد كان مستوى الحرص الأمني عاليًا وحثيثًا.
بالتأكيد نسعى جميعًا دائما إلى تحقيق نجاحات أفضل سواء على صعيد الناشر أو إدارة المعرض، وأرى أن من المجدي في المرات القادمة عقد حلقات وورش، مهمتها خلق تواصلات حقيقية تهتم بكيفية إيجاد سبل لتجاوز أزمات قطاع النشر التي يعاني منها هذا القطاع في كافة الوطن العربي، ولا ننسى أنه قطاع يحتاج دائما إلى دعم حقيقي لأنه يشكل عصبًا أساسيا ومهما في خلق مناخات إيجابية ومتنورة ويدحض الكثير من عتمة الجهل والميول السالبة.
ونقطة مهمة، في اعتقادي، بإمكانها القفز بمعرض الرباط بشكل حقيقي إلى الأمام، ألا وهي ضرورة توافر لجان مهتمة بالشراء، وبخاصة كتب الدراسات التي لا يمكن للقارئ المتخصص الاستغناء عنها، فاللجان ضرورة لا بدّ منها لخلق التوازن وتقوية ودعم القطاعات المهمة في عالم النشر والتي لا يمكن للشراء الفردي حملها وإسنادها.
ماذا ستقدمون في معرض الرباط من كتب مغربية؟
كثيرة هي الإبداعات المغاربية التي ستحملها الدار في هذه الطبعة، ومن أهمها، رواية «جرحى الحياة» للكاتب الكبير بنسالم حميش، وكتاب «من أرشيف محمد زفزاف» بإشراف ومراجعة د. محمد الداهي، «الحجاج في الرسائل الأندلسية-مقاربة بلاغية حجاجية لرسالة ابن زيدون الجدية» ل د. نبيل الهومي، وكتاب «القفز في الفراغ»، وكتاب «شِعْرية الإحْدَاث [كِتابَة في طَوْر المَجِيء] وديوان هاوية تجرح الضوء» لصلاح بوسريف، ورواية «مجرد أجساد» للكاتب والمترجم الجيلالي مويري، و«محكيات بين الكثبان» لماء العينين ماء العينين، و«العابر في صمته» لعبد الرحيم أبطي، و«أنثى تليد» لفدوى البشيري، ورواية «بهيجة وأخواتها»، للنيني عبد الرحيم أدريوشي. والكثير من الكتب والإصدارات المغاربية الأخرى والمهمة التي سنتشرف بأن نكون ناشرها وحامل رايتها.
شهادات كتاب وناشرين:
سعياً وراء تنويع الآراء والمواقف في مجال الكتاب المغاربة الذين يفضلون، أو لا يفضلون، نشر مؤلفاتهم لدى دور نشر عربية، استكتبنا مجموعة من الأدباء المغاربة وناشر مغربي، هم: الروائي إدريس الصغير، القاص والروائي أبو يوسف طه، الروائي والسيناريست عبد الإله الحمدوشي، والناشر المغربي أحمد المرادي مدير دار نشر “التوحيدي”.
إدريس الصغير: بعد أربع تجارب مع ناشرين عرب أكتفي بالنشر الذاتي
لي أربع تجارب فقط مع ناشرين عرب، من بيروت وطرابلس وبغداد:
الزمن المقيت، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، 1983. 2- عن الأطفال والوطن، قصص، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، 1985. 3- وجوه مفزعة في شارع مرعب، قصص، المنشأة العامة للنشر والتوزيع، طرابلس، ليبيا، 1985. 4- كونشيرتو النهر العظيم، رواية، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العراق، 1990.
بعد ذلك سأكتفي بنشر أعمالي على حسابي الخاص غير مهتم بتوزيعها أو الدعاية لها. إذ أنني يائس كل اليأس، من فائدة الطبع والنشر والتوزيع في مجتمع لا يقرأ. ليس معنى ذلك أنني أسعى للعيش من الكتابة، بل فقط أسجل ملاحظة عن تدني مستوى القراءة والمتابعة في مجتمعنا، وانصراف الناس فيه إلى هوايات أخرى، مقارنة بما يحدث في دول أخرى من هذا العالم، شرقا وغربا.
طبعت عملي الأول، وكان العقد يحصر حقوق التأليف في 10 في المئة من ثمن الغلاف، وحين طالبت بها، أحالتني دار النشر على الموزع بوصل يحدد القيمة بالليرة اللبنانية، التي كانت آنذاك في ظل الحرب الأهلية في أسوإ حالها. كان الموزع هو: “سوشبريس” وكان المقدار هو 200 درهم، انتقلت لاكتشاف ذلك من القنيطرة إلى البيضاء ذهابا وإيابا في عربة الدرجة الأولى من القطار.
طلب مني الشاب المحاسب الذي سيسلمني حقوق التأليف، أن أراسل الناشر ليحدد مقادير حقوق التأليف بالدرهم المغربي. لم أعر ذلك أي اهتمام، وهممت بمغادرة المكان، سألني إن كنت قد اشتريت كبش العيد! “وكنا على بعد أسبوع من عيد الأضحى” أجبته بلا، فقال سأعطيك 500 درهم، ثمن كبش العيد، وسأتصرف مع دار النشر.
في العمل الثاني، لم أطلب من دار النشر سوى ما جادت علي به من نسخ.
في العمل الثالث، وقعت عقدا للطبع في ليبيا، توصلت بالنسخ، وطلبوا مني الحضور إلى طرابلس لاستخلاص حقوق التأليف، كان المرحوم عبد الرحيم مودن مستدعى لنشاط ثقافي في ليبيا، غير أنه لم يكن يتوفر على جواز سفر.
سافرت إلى الرباط لأسحب دعوة مكتوبة تمكنه من الحصول على جواز سفر. حين ولجت باب شقة المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب، قلت:
– السلام عليكم.
لم أتلق أي رد. بل بادر شخص رحمه الله، بتسليمي دعوة باسمي.
ولم يكن عندي علم بذلك.
تناولتها، وطلبت نسخة من دعوة عبد الرحيم مودن، فمكنوني منها.
كذلك كان جواز سفري منتهيا.
ذهبت أنا وعبد الرحيم إلى قسم الجوازات بعمالة القنيطرة عند القايد لحسن، الذي مكننا من جوازي سفر في ظرف يومين.
لكن الإخوة في اتحاد كتاب المغرب قرروا السفر بدوننا، في سلوك متخلف لا أخلاقي، منحط. لن أنساه ما حييت.
هكذا ضاعت حقوقي إلى الأبد.
لكن في العمل الرابع. كنت في بغداد ليخبرني بعض أصدقائي العراقيين بأن علي أن اتصل فورا بدار الشؤون الثقافية لأتسلم حقوق التأليف. خيرني المحاسب بأن أختار العملة التي أفضل؟ فقلت: الدولار. وكذلك كان.
الأمور التي أحدثكم عنها باتت اليوم قديمة متقادمة، يحضر الآن واقع آخر لا أعرف تفاصيله جيدا، بحكم بعدي أو تباعدي عن ساحة ثقافية لم تفصح لي سوى عن وجهها الأسود المفزع، الممتلئ بالخداع والمؤامرات ونصب الأفخاخ القاتلة.
إذن لماذا عجزت دور النشر المغربية عن استيعاب الكتاب الذين يهاجرون بمخطوطاتهم للنشر في الخارج؟
سياسات الدعم التي تبنتها وزارة الثقافة منذ سنوات، لم تؤتي أكلها بسبب المحسوبية والحزبية الضيقة، والتكتم على التفاصيل المنظمة للاستفادة.
الناشرون عندنا لا يهتمون بالتوزيع، ويكتفون بالمشاركة في المعارض في أحسن الأحوال. بينما يطمح الكتاب إلى أن توزع أعمالهم في معظم دول العالم.
ما الدور الذي تقوم به مديرية الكتاب، التابعة لوزارة الثقافة مثلا؟
هنالك أشياء لا حصر لها تظل حبيسة رفوف المكاتب، لا يطلع عليها سوى الأصدقاء من المقربين وخاصة الخاصة.
هل تمتلك دور النشر العربية فعلا لجان قراءة منصفة تسعى لنشر الجودة؟
هل نتحدث عن الإبداع بكل أصنافه وعن البحث العلمي والترجمة، تعريبا وتعجيما، وعن الكتابة للأطفال، وعن إحياء التراث……..إلخ
الكتاب غريب في جل السكنيات المغربية، ولست أدري كيف هي وضعيته في المؤسسات التعليمية؟ وهل للناشرين رؤية واضحة للعمل على نشر الوعي ورفعة الذوق الفني عند المتلقي، سعيا وراء تطوير مجتمعاتنا نحو الأفضل.
أبو يوسف طه: الوضع الثقافي العام في حالة انتكاسة
الهجرة ظاهرة ملازمة للإنسان منذ القديم، وبواعثها متعددة، اجتماعية، سياسية، حربية، اقتصادية، فكرية… فالإنسان بطبيعته يوثر الاستقرار والأمان فإن وقع ما يهدد الوضع المريح فما من خيار إلا الانكماش أو اللوذ بااللجوء أوالهجرة من وطن إلى آخر أو لغة إلى أخرى، وللتوسيع تعد الترجمة نوعا من الهجرة (رحلة الخبز الحافي مثلا)، فالهجرة في مقصدها الحقيقي بحث عن ” الوضع الأكثر ملاءمة «. ما علاقة ما سقناه بهجرة كتاب مغاربة إلى مطابع المشرق والخليج وآفاق أخرى؟ ببساطة لأن الوضع الثقافي العام في حالة انتكاسة، هناك أزمة كبرى تعشش في حضنها أزمات صغرى، الوضع غير ملائم، فالمجال، حاليا تشوبه أعطاب، أدناها عدم الحيوية بغياب حوارات ثقافية عميقة وجادة مفيدة، وهيمنة التحيز والزبونية وبقايا التحزب المتطرف، لا يمكن والحال على هذا النحو ألا تتسلل بعض هذه الممرات إلى دور النشر، وهي قليلة، ويؤدي فاتورة هذه الأعطاب الكتٌاب بدرجة أولى، فهم الخاسرون بسبب نسبة المردود المادي، نتيجة عدم الكشف عن الحقيقي عن المطبوع والمباع، وقصور التوزيع والترويج، رغم الدعم الممسوك من وزارة الثقافة الذي يفيد الناشر لا الكاتب، فضلا على أن هذه الدور لم تتجاوز الشكل البدائي في التعامل مع الكاتب والكتاب ك ” مصانع للكتاب ” في غياب المُراجع الأدبي، والتوزيع الجيد، وتفعيل نظام الترويج بالاستكتاب والمشاركة الفعالة في مختلف المعارض في بلدان متعددة، واقتراح الترجمة إلى لغة أو لغات مختلفة مع الحفاظ على حقوق المؤلف. دور النشر عندنا مقصرة في إيصال الكتاب إلى القارىء بأساليب متطورة وبما يناسب القدرة الشرائية. هذا الواقع غير المشجع بات مؤثرا بشكل سلبي، ودافعا لبعض الكتاب والمهتمين ليتحولوا إلى ناشرين محليين مع وضع في الحسبان أن بعض الدور الصغيرة المؤدى لها أجر الطبع تدلس على الكاتب بالنقص من عدد النسخ المتفق في شأنها إذا تكفلت بالتوزيع أو تزيد مع التكتم. وهناك عامل تدني كم القراءة بدليل تحول مكتبات إلى متاجر مما يوجب البحث عن أسواق خارج المجال المحلي، كما يجب استحضار ما شاب المؤسسات التعليمية في مختلف المستويات التي هي المُحفِّز الحقيقي للأقبال على القراءة من التخلي عن الترغيب على ( التكوين الذاتي ) الذي كان بحكم البديهي والطبيعي في مراحل سالفة نتيجة اكتظاظ المقررات من جهة، ومن جهات أخرى، شيوع بيع التعلم، تغير مقاييس الوضع الاعتباري الاجتماعي للفرد فلم يعد المثقف ذا شأن في عرف (تسييد الثري) هذه حقيقة لا يمكن التغاضي عنها، أضف إلى ذلك فصل الارتباط الأتوماتيكي للتعليم بالتشغيل . عرف التعليم تراجعا متتاليا مثلما الثقافة مما يوحي باستبعاد نشوء نخبة ذات مستوى رفيع مؤثر، وهذا ما أخرج شريحة هائلة من المدرسين والتلاميذ والطلبة من فضاء القراءة. إن المشاكل مترابطة ومتفاعلة، إن الأمر يتعلق بسياق زمني له نواته المحورية تتجاذبة تأثيرات. فإنجاز كتاب وتدبير مجراه يتطلب زبائن نشيطين، ولأن ذلك غير متاح على النحو المثالي المرغوب، فقد شغل مكانَٕ القصور ما غطى على سيرة الجيد، هيمنةُ التفاهة والرداءة، ناهيك عن اختطاف وسائل التواصل الاجتماعي لجمهور واسع ليسر الاستعمال وغلبة الصورة، هذا الإنجاز العلمي ذو الوجهين المفيد والضارة في آن، الماهر جدا في السرقة المميزة للزمن الخاص
الصورة قاتمة، لهذا قفز بعض كتابنا من نافذة الإغاثة نحو بر الأمان مثلما يفعل البعض في الترشح لجوائز خارجية في مختلف التخصصات هربا من سوء الحال في وطنهم إلى ما يعتقدون أنه يوفر لهم جرعة من الاطمئنان.
إن التحليل الشامل الموضوعي للوضع الثقافي، وتحديد استراتيجية ذات آفاق مستقبلية ووضع تدابير إجرائية لا تغفل الترابط العضوي بين المجالات كافة كفيل بكسر طوق الأعطاب المهيمنة.
عبد الإله الحمدوشي: المغرب يكتب والشرق ينشر.. والمغاربة يطمعون في نيل الجوائز
سابقا كانوا يقولون الشرق يكتب والمغرب يقرأ. يمكن القول حاليا إن المغرب يكتب والشرق ينشر، لكن لماذا هذا الانقلاب في الأدوار؟ هل فعلا أننا في المغرب لدينا فائض في التأليف إلى حد عجز دور النشر المغربية على تغطية كل الإصدارات؟ أو يتعلق الأمر بشيء آخر. يمكن اقتحام الموضوع مباشرة بدون تبريرات والاعتراف بأن جل الكتاب المغاربة يدفعون مقابل نشر مؤلفاتهم لدور نشر أغلبها مصرية وهي معروفة ومشهورة بهذا النوع من التجارة. يقال إن السعر ألف دولار عن كل إصدار وخصوصا الروايات، والسبب هو أن هذه الدور تعدهم بتوزيع مؤلفاتهم في كل البلاد العربية وترشيحها لجوائز الخليج المجزية العطاء. لكن لا أحد يمكنه أن يتأكد من عدد النسخ المطبوعة ولا المبيعات أو حتى توزيع هذه المؤلفات على المكتبات العربية التي تعرف انحسارا مرعبا في كل البلاد العربية بسبب أزمة القراءة التي لم تكن مزدهرة في يوم ما.
شخصيا لم يسبق لي أن نشرت رواياتي وعددها ثلاث عشرة رواية خارج المغرب برغم أن رواياتي وخصوصا البوليسية منها ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والمقدونية وقريبا إلى الإيطالية والهندية وغيرها من اللغات. لماذا لا تتهافت دور النشر العربية على هذه الروايات التي صارت عالمية، بل ونشرت طبعاتها الإنجليزية في مصر وصدرت عن الجامعة الأمريكية في القاهرة؟ هذا لأن هدف هذه الدور ليس إعادة نشر الروايات العربية التي نشرت في المغرب وشقت طريقها إلى العالمية بقدر ما تبحث عن مؤلفات مسبوقة الدفع من طرف مؤلفيها.
هل دور النشر المغربية عاجزة عن لعب الدور الذي تلعبه الدور الشرقية؟ ربما كان هذا في زمن سابق، حاليا لدينا عدة دور نشر مغربية محترمة لها إصدارات متنوعة وفي طبعات جيدة، وهذه الدور تشارك في جل المعارض العربية وحتى غير العربية، وهناك ّإقبال على الكتاب المغربي في هذه المعارض وخصوصا الكتب الصادرة عن دور نشر مغربية، وهذا بشهادة ناشري دار التوحيدي الذي يحقق مبيعات محترمة لرواياتي في المعارض الخليجية التي تعرف انفتاحا كبيرا على كل الإصدارات.
إجمالا يمكن القول إن وهم النشر في دور شرقية عريقة وشهيرة لم يعد يحقق أي شهرة أو اعتراف بقيمة المنتوج مادام الجميع يعرف أن هذه الدور لن تقبل بالنشر لكاتب مبتدئ أو حتى محترف مغربي بدون مقابل.
أحمد المرادي (دار التوحيدي): النشر المغربي منقسم رغم محاولات تنظيمه
يمكن، وباختصار شديد جدا، تحديد ملامح قطاع نشر الكتاب بالمغرب في المحددات التالية:
يتجاوز بالكاد، رقم منشورات القطاع، سنويا، وبكل مكوناته، مدرسي، أطفال، ثقافي، تراثي، 4000 عنوانا، تساهم دور النشر العاملة في القطاع في شقه الثقافي، بنسبة لا تتجاوز 15%، أي 600 عنوان، تتوزع بين 10 ناشرين.
يتميز قطاع النشر بالمغرب بتداخل المهن المرتبطة بالقطاع، حيت أن أغلبية الناشرين الفاعلين، يمارسون مهنة النشر، ومهنة الطباعة، ومهنة التوزيع والمكتبية، في نفس الآن.
خلال السنوات الأخيرة، اضمحل سوق القراءة إلى مستويات متدنيةّ، تبعا لتوالي فشل إصلاحات المنظومة التعليمية، وتراجع مستوى التعلُّمات، وتحول سلاليم الارتقاء الاجتماعي من التعليم والثقافة إلى وسائل أخرى تتطلب فقط مستوىً متوسطا في “الفهلوة”، وأعني بذلك الممارسة السياسية والنقابية والمدنية والتأثير على الرأي العام عبر وسائط التواصل الحديثة.
يتميز قطاع نشر الكتاب بالمغرب، بالانقسامية السائدة على مستوى تنظيمات المجتمع المغربي، فرغم محاولات تنظيمه من خلال مؤسسة مهنية موحدة لكل الفاعلين، كان الفشل هو المنتهى، فإرادة تأبيد وضع بئيس ومحافظ، إضافة إلى تدخل فاعلين آخرين لا مكان لهم أصلا في القطاع، جعل هذا القطاع في مجمله جزء من القطاع المهيكل إلا بعض الاستثناءات.
تشكل نقطة بيع الكتب بالدار البيضاء (الحبوس)، بؤرة انحباس في تطور قطاع النشر، حيث إن أغلبة المكتبيين والموزعين، يتسوقون من هذه النقطة، ومن المعلوم أن أغلب الناشرين، أصحاب المشروع الثقافي واضح المعالم، لا يستطيعون الولوج إلى القارئ من خلال هذه النقطة المظلمة”. وأترك للقارئ الكريم مجال الاستنتاج.
يمكن إجمال حقوق المؤلف في مسألتين أساسيتين: أولاهما حقوق مالية، تتأتى من مبيعات الكتاب، أو من شراء حقوقه. وثانيهما: حقوق معنوية يمكن اختصارها في اكتساب مكانة ومشروعية واعتراف بالمؤلف، من خلال الانتشار والترجمة والحصول على جوائز.
يحصل المؤلفون المكرسون على هذه الحقوق بحكم موقعهم الاعتباري وهم أقلية (خارج منطق الزبونية) في حقيقة الأمر، وهؤلاء اتجه الكثيرون منهم نحو الشرق بحثا عن تكريس الاسم خارج الوطن، وهو أمر محمود ومشروع لكن ليس بأي ثمن.
وهناك المؤلفون المبتدؤون، الباحثون عن خلق وتكريس اسمهم من الخارج، وهذا الأمر أصبح موضة في الوسط الثقافي، وبعضهم يفضل أداء تكلفة النشر كاملة (خارج الوطن ويرفضها داخله) مقابل وهم الانتشار واكتساب الاعتبار من “الشرق.”
هذه الموضة خلقت الشروط الموضوعية لظهور شبكات سمسرة تابعة لدور نشر شرقية محددة بالاسم، تعمل على استقطاب الكتاب المكرسين لهذه الدور، وتدفع بالتجارب الجديدة للبحث عن نفسها خارج الوطن، وفي الحالتين يتم تكريس استمرار القطاع في فقدان دور نشر وإغلاق أخرى تماما، وتكريس وهم الشهرة واكتساب الاعتبار انطلاقا من “الشرق.”
بالتأكيد أنا كناشر أؤمن بحرية المؤلف في نشر كتابه حيثما شاء، وأعتبر جوهر القضية مرتبط بمنظومة الصناعة الثقافية السائدة في مجتمعنا، والباقي تفاصيل، رغم أنه، وفي غالب الأحيان، في التفاصيل تكمن حقيقة الأشياء.
بالعودة الى موضوع الملف يمكن التأكيد على النقط التالية:
إن العلاقة بين الطرفين (المؤلف والناشر) هي علاقة تعاقدية متوافق عليها بين طرفين، يفترض أنهم واعون بواجباتهم وحقوقهم، فالمؤلف هو الذي يضع رهن إشارة الناشر عمله، وبإرادته، وله في البداية والنهاية حق الاختيار الصيغة والمسار.
كما أن وضع المؤسسات الناشرة المغربية يختلف من دار لأخرى، ويرتبط بمنظومة شاملة من التصورات التجارية والثقافية وحتى السيكولوجية لطرفي المعادلة: المؤلف صاحب المشروع والناشر للمشروع عبر عقد مكتوب أو حتى ضمني وفي أحيان كثيرة شفوي.
إن عجز دور النشر المغربية عن استيعاب المؤلفين فيه، هي حكم قيمة سلبية ومسبقة عن قطاع نشر الكتاب بالمغرب، وذلك لأن القطاع يتسيّده الغموض وعدم وضوح الرؤيا واختلاط المهن في صناعة الكتاب، من النشر إلى الطباعة إلى التوزيع إلى المكتبة بل وإلى السمسرة والفساد في الصفقات العمومية الخاصة بشراء الكتب وتحديد ما الكتب التي يتم اختيارها كمشتريات. للمؤسسات العمومية وشبه العمومية وحتى الخاصة. هذا دون الحديث عن موقع الكتاب في الصناعة الثقافية الوطنية، محتوى، وآليات ومؤسسات وصية.