دورة العنف ودورة اللاعنف
بقلم: خالص جلبي
العنف دورة مجنونة لا تأتي إلا بالعنف، والعنف دورة تزداد اتساعا والتهابا، والعنف لا يحل مشكلة، بل يخلق مشاكل. فهذه ثلاث حقائق أساسية في سيكولوجية البشر. ومصرع الشيخ ياسين سابقا يندرج ضمن هذا القانون، ومن يأتي بعده يجب أن يفهم هذا القانون النفسي.
واليوم كل من العرب واليهود مرضى بالعنف. وشارون وبن لادن وبوش ونتانياهو من معدن واحد، يرون أن القتل أفضل الحلول، مثل الطبيب الذي يعالج مريضه بالتخلص منه، وليس تخليصه من المرض.
وفي كتاب «البؤساء» تبدأ القصة من سرقة رغيف خبز من أجل إطعام أطفال جياع، لتنتهي في السجن لخمس سنين. هكذا كتب (فيكتور هوغو) روايته العالمية عن (جان فالجان). ويقول طالما كان في العالم بؤس وشقاء وجهل، فيجب أن تكتب مثل هذه الروايات. والذي ثبت أن السجن لم يخرج مواطنا صالحا، بل مجرما عتيا. ولبث جان فالجان في السجن من أجل رغيف الخبز 19 سنة بسبب مسلسل التمرد والعقوبة التي كان يقودها الشرطي (جافير) حرصا على تنفيذ القانون.
والقانون وضع للناس وليس العكس. وفي الإنجيل أن الكتبة عابوا على المسيح وعظه للمخابرات ورجال الحكومة (العشارين) يوم السبت، فقال لهم: «لو وقع خروف أحدكم في الماء، يوم السبت، ألا تنقذوه؟ ويلكم إن إنقاذ إنسان أهم من خروف، والسبت وضع للإنسان ولم يوضع الإنسان للسبت».
والذي حرر جان فالجان من الأفكار الشريرة السوداء لم يكن السجن أو القانون؛ بل قس كافأ سرقته بالصفح عنه. لأنه رأى المنظر خارج إطار القانون والعقوبة. ومن ينبوع الحب والمغفرة ولد إنسان آخر هو العمدة (مادلين) الذي أحيا مدينة كاملة.
وعلى الغرار نفسه كتب (دوستويفسكي) روايته «الجريمة والعقاب» ليقول لنا إن (راسكولنكوف) هو مجرم في داخل صدر كل منا، وإن المجتمع هو الذي يجعل البشر مرضى بالعنف والجريمة. وهذه الروايات تنفع في شرح الأبعاد السيكولوجية لآلية العنف وحدوثه.
وعندما اقتيد اللص لعمر رضي الله عنه في عام المجاعة ليطبق الحد عليه فيقطع يد الفقير؛ أطلق عمر رضي الله عنه الفقير وقال لسيده: «لو جئت به مرة أخرى فلسوف أقطع يدك أنت». وعمر رضي الله عنه فهم أن القانون للإنسان وليس العكس، وبيننا وبين هذا الفقه مسافة سنة ضوئية، بعد أن تحنط العقل عندنا بأشد من مومياء الفرعون بيبي الأول.
وفي يوم 22 مارس 2004م قتل الشيخ ياسين، زعيم حركة حماس، في دورة العنف الانتحارية. وهو شهيد عند الفلسطينيين، ولكنه في نظر الصهاينة وممن قتله مجرم مريد. ونحن يصعب علينا فهم الأشياء ما لم نرها من منظور مختلف. ولو ولد أحدنا من رحم امرأة يهودية في القدس، لرأى في الرجل زعيما للقتل، ولكنه عند قومه والعرب زعيم روحي.
وإذا كان الفلسطينيون يبكون ياسين، فاليهود كان عندهم عرس. والقرآن يتكلم عن متناقضات الوجود أنه في اللحظة الواحدة أضحك وأبكى وأنه أمات وأحيا، وسبحان من جمع الأضداد. كما مر يوما الأعمى أبو علاء المعري على المقابر فقال: «رب لحد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد!». وفي يوم بكى اليهود على حائط المبكى، وفي الحرب العالمية الثانية صب عليهم العذاب صبا وتبرأ منهم كل واحد. وكل أمة لها يوم محزنة.
والشيخ ياسين مشى نصف خطوة باتجاه الحل الصحيح، حينما ردد قصة ابن آدم من القرآن (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)، فقال إنه لن يمد يده بالقتل لجماعة فتح. والرجل كان شخصية كاريزمية، ولو أكمل الحكمة القرآنية فخاض صراعه مع اليهود بالطريقة نفسها لاختلفت الأمور. ولكن الشيخ ياسين رأى حل الأمور بطريقة الثورة الفرنسية وليس بالطريقة النبوية، ولو فعل هذا لكان غاندي الشرق الأوسط ولبدل وسط الصراع العربي ـ الصهيوني، ولكن التربة الثقافية عندنا صحراء مالحة بالدم وتحتاج إلى تغيير نوعي.
وخيار المقاومة السلمية ما زال مفتوحا للفلسطينيين أن يتبنوا طريق اللاعنف فيكفوا عن الدماء ومن طرف واحد؛ كما جاء في قصة ابن آدم الأول. والقرآن يقول عمن قتله إنه كان من (الخاسرين). ومن لم يقتل نجح مرتين في الحياة والممات، فقد تقبل قربانه ولم يتقبل من الآخر. ومات فلم يدخل في مذهب القاتلين الظالمين. وكان مصرعه السلمي سببا في تغيير موقف القاتل فأصبح من النادمين. وأول درجات التوبة هي الندم.
وكما يقول سقراط إن كان لي الخيار بين الظالمين والمظلومين؛ فأحب إلي أن أكون من الفريق الثاني. وهذا أمر سيكولوجي نراه حتى اليوم عند الشيعة، وهم يجلدون أنفسهم في عاشوراء إحياء لذكرى المقتول ظلما الحسين رضي الله عنه وأرضاه.
وهو قانون نفسي ليس عند الشيعة فقط؛ بل في صور شتى من المصلحين الذين فضلوا الموت من أجل أفكارهم ولم يمارسوا العنف. ويقبل الناس على رؤية فيلم «المسيح»، لأنه يذكر بمصرع الحسين على نحو أشد سلامية. وليس أعظم من السلام الذي يكسر حلقة العنف المجنونة. ومع مقتل ياسين، كان على الفلسطينيين أن يفكروا في وقف العنف ومن طرف واحد، كما فعل ابن آدم الأول. وهناك من يخلط الآيات القرآنية وهي آيات متناثرة مثل نجوم السماء. ولولا الإسقاط العقلي على نجوم الدب القطبي، ما عرف الناس الشمال من الجنوب. وآيات القرآن كذلك ففيها (كفوا أيديكم) وفيها (اقتلوهم حيث ثقفتموهم) وفيها قصة (نبأ ابني آدم بالحق). فيجب وضع صورة بانوراما لمعرفة المحيط من الإطار، وقوانين الطوارئ من أحكام السلام، ويا أيها الذي آمنوا ادخلوا في السلم كافة.